بغداد / تبارك المجيد
يستمر الفساد في التغلغل داخل العراق، مستحدثًا أشكالًا جديدة، منها غسيل الأموال عبر تجريف الأراضي الزراعية وتحويلها إلى مشاريع سكنية وأنشطة أخرى. تعاني محافظة البصرة من أزمة بيئية وزراعية غير مسبوقة، حيث يواجه المزارعون تحديات كبيرة تهدد مستقبل الزراعة في المنطقة.
كان مدرك سعدون، المزارع من ناحية النشوة في البصرة، قد قضى سنوات عمره وهو يعتني بأرضه التي كانت تشع باللون الأخضر، ممتلئة بالنباتات، تمد المنطقة بالبقول والخضروات. يتذكر كيف كانت الأمطار تتساقط على أرضه فترويها، لتزهر من جديد مع كل موسم. لكن اليوم، يقف مدرك أمام هذه الأرض وقد باتت شبه خاوية.
يقول بصوت يغلبه الحزن: «حتى الأمطار لم تعد تحمل الخير لأرضي، بل كأنها تجلب معها مواد حارقة تختلط مع الانبعاثات من حقول النفط القريبة، تقتل البذور قبل أن ترى النور». ومع ارتفاع نسبة الملوحة في المياه والتلوث المحيط، أصبحت محاولاته لإحياء الأرض مجرد خطوات يائسة.
في النهاية، لجأ سعدون إلى التدريس ليؤمن لقمة العيش لعائلته، ولكن قلبه ما زال يحنّ إلى الأرض والمزرعة التي فقدها. حيث ارتفاع تكلفة الزراعة وانعدام الدعم للمزارعين، وتدهور التربة وصعوبة الحصول على مياه صالحة، لم يعد أمام العديد من المزارعين إلا ترك مهنهم. وهناك من استغل هذه الفوضى في الأراضي الزراعية، حيث قام البعض بتحويلها إلى مشاريع استثمارية بشكل غير قانوني، مستفيدين من النفوذ والسلطة، يقول ذلك سعدون لـ(المدى).
تأثير جولات التراخيص
يعبر عضو مجلس محافظة البصرة، حسن شداد الفارس، عن قلقه حيال التأثيرات السلبية لجولات التراخيص النفطية على الأراضي الزراعية في محافظة البصرة، مشيراً إلى أن هذه «الجولات تستحوذ على آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية بموجب قانون "التعويض الرضائي"». هذا القانون يسمح لوزارة النفط بشراء الأراضي الزراعية من أصحابها بأسعار تُحدد من قبل الوزارة، مما أدى إلى تحويل مساحات واسعة من الأراضي الزراعية إلى أراضٍ غير مستغلة للزراعة، بل إلى أراضٍ قاحلة، الأمر الذي ساهم في تدمير القطاع الزراعي بشكل كبير.
أوضح الفارس لـ(المدى)، أن «ما يُعرف بالمحرمات النفطية، أي المناطق المحظور الاستثمار فيها لأغراض أمنية أو فنية بسبب قربها من آبار النفط، لم تعد تقتصر على الآبار والمناطق المحيطة بها فقط، بل امتدت لتشمل مساحات أكبر بكثير، مما ضاعف من حجم الأضرار الزراعية في المنطقة».
كإجراء لمواجهة هذه المشكلة، أكد الفارس أن «هناك مساعي جارية للعمل على قانون جديد يُعرف بـ"قانون التعايش الزراعي النفطي"». يجري هذا العمل بالتعاون مع لجنة النفط والغاز النيابية، ويهدف إلى تقليص نطاق المحرمات النفطية، مما يسمح للمزارعين بالاستفادة من الأراضي غير المستغلة للأنشطة النفطية لإعادة استثمارها في الزراعة، وبالتالي تقليل الخسائر الزراعية وتحقيق توازن أفضل بين النشاطين الزراعي والنفطي.
تحديات بيئية وزراعية
وسط تزايد معدلات التصحر وارتفاع ملوحة التربة، الذي أدى إلى تقليص المساحات المتاحة للزراعة بشكل كبير، تُقدّر الدراسات البيئية المستندة إلى صور الأقمار الصناعية أن حوالي 89% من أراضي البصرة تُصنّف كأراضٍ غير مستغلة، فيما لا تتجاوز المساحات الزراعية 4.5% من إجمالي مساحة المحافظة، تضاف إليها نسبة 2.5% من المسطحات المائية، وفقاً لما ذكره الدكتور جاسم المالكي، استشاري بيئي وعضو المكتب الاستشاري لنقابة المهندسين الزراعيين، في حديث مع (المدى).
أشار المالكي إلى أن «المناطق الغربية من البصرة التي يغلب عليها المناخ الصحراوي تعتمد على المياه الجوفية لزراعة بعض المحاصيل، مثل الطماطم. إلا أن ارتفاع الملوحة في التربة يعيق تطوير هذه الزراعة ويحد من إنتاجيتها». هذا التحدي يُضاف إلى الصعوبات التي تواجه المناطق الجنوبية، من الفاو إلى شط العرب، التي كانت سابقاً مزدهرة زراعياً قبل أن تتأثر بشكل كبير بزيادة ملوحة مياه شط العرب، ما أسفر عن تدمير البساتين وتدهور الإنتاج الزراعي. وقد أدّى تحويل بعض هذه الأراضي إلى مناطق سكنية إلى تراجع قدرة البصرة الزراعية بشكل ملحوظ.
تُعد الأراضي الواقعة شرق البصرة من المناطق التي تملك إمكانيات زراعية هائلة، لكنها تعاني من مشكلات في التربة وارتفاع نسبة الملوحة، بالإضافة إلى تداخل المنشآت النفطية في مساحات كبيرة منها. وذكر المالكي أن هناك حوالي 800 كيلومتر مربع من الأراضي غير المستغلة، يمكن استصلاحها بمشاريع مائية، لكن هذا الأمر لا يزال يفتقر إلى اهتمام جدي من قبل الجهات المعنية.
بالنسبة للأراضي الزراعية المتبقية، أشار المالكي إلى أن «ضفتي دجلة والفرات، خاصةً في مناطق القرنة والدير والنشوة، لا تزال تشهد نشاطاً زراعياً محدوداً يشمل زراعة البساتين والخضروات، إلا أن هذه المساحات تشكل نسبة ضئيلة للغاية من إجمالي الأراضي».
رغم التحديات، ظهرت بعض المؤشرات الإيجابية مؤخراً مع توسع زراعة الحنطة في المناطق الصحراوية الغربية، مستفيدين من تقنيات الري الحديث. وأكد المالكي على أهمية الدعم الحكومي لتطوير البنية التحتية في هذه المناطق، مشيراً إلى أن هذه الخطوة ستعزز الاستدامة الزراعية وتمكن من تحقيق استفادة مثلى من الأراضي المتاحة.
وأضاف المالكي أن «معالجة مشكلات التربة والملوحة والاهتمام بالمناطق غير المستغلة قد يكون بداية لتعزيز الإنتاج الزراعي في البصرة، مما يسهم في تحسين الأمن الغذائي والاقتصادي في المحافظة».
تحويل الأراضي الزراعية إلى سكنية
تساهم عوامل مثل التصحر وارتفاع ملوحة التربة في دفع السكان إلى تحويل أراضيهم الزراعية إلى أراضٍ سكنية. ضمياء أمين، رئيس منظمة السياب، التي تتابع قضايا التنمية الزراعية في المنطقة، أشارت في حديث لـ(المدى)، إلى أن «معظم الأراضي الجرداء قد وُزِّعت من قِبل المحافظة كقطع سكنية». وترى ضمياء أن «هذه الخطوة تأتي استجابة لحاجة السكان إلى السكن، لكنها أدت أيضاً إلى تدهور الإنتاج الزراعي في المنطقة، حيث وجد السكان في البناء بديلاً عن الزراعة التي أصبحت غير مجدية بسبب التدهور البيئي».
بحسب ضمياء، فإن القوانين السابقة كانت تسمح بتحويل الأراضي الزراعية إلى سكنية، مما شجّع الكثيرين على الاستفادة من أراضيهم بطرق أكثر جدوى اقتصادية. إلا أن الجفاف وارتفاع نسبة الملوحة في التربة كانا من العوامل المؤثرة التي دفعت المزارعين لتغيير استخدامات أراضيهم، وأدى هذا بدوره إلى تقلص مساحة الأراضي المزروعة في المحافظة.
ومع تفاقم التحديات البيئية، اتجهت الدولة نحو استيراد المواد الغذائية كبديل اقتصادي، وهي خطوة ترى ضمياء أنها لم تأخذ في الاعتبار الحاجة لدعم المزارعين المحليين. فقد أدت المصالح الاقتصادية والسياسية إلى تضاؤل الدعم الحكومي للقطاع الزراعي، مما ترك المزارعين دون مساندة فعّالة في مواجهة هذه التحديات المتزايدة.
ورغم تحوّل معظم الأراضي إلى قطع سكنية، تذكر ضمياء أن «هناك شريحة من الأهالي الذين يعتمدون على الزراعة لم يتمكنوا من تحويل أراضيهم، ما أدى إلى تعقيد أوضاعهم، خاصةً في ظل غياب الدعم الحكومي سواء من ناحية توفير المياه أو الأسمدة اللازمة للزراعة». وتلفت ضمياء النظر إلى تأثير المشاريع النفطية، مثل مشروع خط الحرير، على الأراضي التي تحتوي على آبار نفطية، حيث تضررت بعض المناطق نتيجة هذه المشاريع، وإن كان بعض المتضررين قد حصلوا على تعويضات.
تؤكد ضمياء وجود حاجة إلى سياسات متوازنة تتعامل بواقعية مع التحديات التي تواجهها المحافظة. فهي ترى أن تحقيق التنمية المستدامة في البصرة يتطلب سياسات توازن بين توفير السكن ودعم القطاع الزراعي. وتشير إلى أن تحقيق هذا التوازن سيسهم في حماية حقوق جميع الأطراف وتوفير حلول مستدامة تلبي احتياجات السكان وتدعم الاقتصاد المحلي، في ظل تزايد التحديات البيئية والاقتصادية.
مساعي لإحياء القطاع الزراعي وتقليص المحرمات النفطية
الفساد يجرف الأراضي الزراعية في البصرة
نشر في: 6 نوفمبر, 2024: 12:14 ص