بغداد / تبارك المجيد
في منطقة الزاب التابعة لمحافظة كركوك، يعيش السكان تحت وطأة تلوث مستمر يجتاح نهر دجلة، مؤثراً على جميع جوانب حياتهم. تحولت ضفاف النهر إلى مكب ضخم للنفايات وفضلات الحيوانات وحتى جثث الحيوانات النافقة، مما أدى إلى بيئة موبوءة تفوح منها الروائح الكريهة وتنتشر فيها الحشرات، محرمةً السكان من أبسط مظاهر الراحة.
يقول الدكتور عمار المصطفى، رئيس فريق «عين الزاب» التطوعي للتنمية المستدامة وحقوق الإنسان، وأحد المتضررين من هذا التلوث، في حديثه لـ(المدى): «تحولت ضفاف النهر إلى مكب للنفايات، وأماكن كانت مخصصة للراحة والتنزه أصبحت بيئة موبوءة. التلوث لم يعد يقتصر على مظهر النهر فحسب، بل شمل مياهه التي تتسبب بانتشار الأمراض المزمنة بين الأهالي، لاسيما أمراض الكلى».
وأشار المصطفى إلى «ارتفاع هائل في أعداد المرضى؛ حيث كانت الإصابات بأمراض الكلى لا تتجاوز حالتين أو ثلاث قبل عشر سنوات في ناحية يبلغ تعداد سكانها 72 ألف نسمة. أما اليوم، ففي مركز ناحية يبلغ عدد سكانه 22 ألف نسمة، سجلت أكثر من 100 حالة لأمراض الكلى وأمراض الدم المرتبطة مباشرةً بتلوث المياه والأغذية».
وأضاف أن «هذا التلوث أثر كذلك على الزراعة، التي كانت تعد مصدراً أساسياً لكسب العيش في المنطقة. بفعل التلوث، بات المزارعون يحجمون عن زراعة محاصيل الخضروات مثل الرقي والبطيخ والفلفل، ليتركوا أراضيهم بلا زراعة، فزحفت الصحراء عليها وانتشر التصحر. من جهة أخرى، تغيب الرقابة الصحية المطلوبة، ولا توجد حملات كافية لمكافحة الأوبئة التي تضر بالقطاع الزراعي، مما جعل السكان عاجزين عن استغلال أراضيهم بشكل مجدٍ، إضافة إلى تراجع الثروة الحيوانية بسبب ضعف المتابعة».
وذكر المصطفى مشكلة حرق النفايات التي تُفاقم الوضع البيئي، إذ تملأ السماء سحب دخان كيميائي ضار عند غروب الشمس، ينتشر ويغمر المدينة، ليزيد من تلوث الهواء ويعمق من معاناة السكان.
ومع افتتاح مركز لغسيل الكلى في المنطقة، أبدى المصطفى فرحته لكون المركز سيخفف جزءاً من معاناة المرضى الذين كانوا يضطرون إلى السفر لمسافة 120 كيلومتراً إلى كركوك لتلقي العلاج. لكنه في الوقت ذاته يعرب عن استيائه من غياب أي خطط جادة لمعالجة جذور المشكلة، فلا توجد دراسات بحثية تهدف إلى فهم أسباب التلوث وإيجاد حلول دائمة تمنع انتشار هذه الأمراض التي تثقل كاهل الناس يوماً بعد يوم.
تحديات صحية وبيئية في قرى الزاب
تعاني العديد من القرى الواقعة على أطراف محافظة كركوك، وخاصة ناحية الزاب، من تحديات صحية وبيئية جسيمة نتيجة تلوث المياه وتدهور البنية التحتية. في ظل الإهمال الحكومي وقلة الخدمات الأساسية، يعيش السكان وسط أزمات متفاقمة تشمل انتشار الأمراض المزمنة، وخاصة الفشل الكلوي.
حتى عام 2005، اعتمد أهالي قرى ضفاف الزاب، والتي تشمل «شميط، الصباغية، النميصة، أزرارية، أشريعة، رنجي، وقرى الحلوات»، على مياهه وتفرعاته بشكل مباشر كمصدر رئيسي لمياه الشرب وباقي الاستخدامات المنزلية، ومن دون معالجات صحية.
يذكر حمزة أحمد سلمان، أحد سكان القرية، أن «القرية تعاني من نقص حاد في المياه النظيفة والكهرباء، مع بُعد المستشفى الأقرب مسافة 40 كيلومتراً، ما يفاقم التحديات الصحية للسكان».
وأوضح سلمان، في حديثه لـ(المدى)، أن «مشكلة تلوث المياه أدت إلى انتشار أمراض مزمنة مثل الفشل الكلوي؛ حيث سُجلت في القرية 13 حالة، توفي نصفهم، واضطر الباقون للعلاج بتكاليف مرتفعة خارج العراق أو في إقليم كردستان، حيث تصل تكلفة العلاج إلى 60 مليون دينار. كما تنتشر بين السكان أمراض جلدية نتيجة استخدام المياه الملوثة».
وأضاف أن «البنية التحتية في القرية تتدهور بشكل متسارع؛ فقد تضرر الجسر الذي يربط القرية بقضاء الحويجة، ما زاد من صعوبة التنقل والوصول إلى الخدمات الأساسية. كما زادت مشاكل البيئة بعد حريق كبريت المشراق أثناء حرب داعش، والذي أدى إلى تدهور الأرض وجفاف الأشجار والمحاصيل الزراعية».
وأكد سلمان أن «الحكومة لم تقدم أي مساعدة تُذكر لتحسين وضع القرية، حيث لم يُنشأ المركز الصحي الوحيد في الناحية إلا بتمويل خارجي وليس محلي. وتحتوي القرية على 7 مضخات أهلية بطاقة 125 حصاناً لكل منها، إلا أنها تزود السكان بمياه غير معالجة وذات روائح كريهة بسبب ركودها في حفر تشبه مجاري الصرف الصحي». وأشار سلمان إلى مشروع حكومي قيد الإنشاء يهدف إلى تزويد القرية بالمياه، إلا أنه غير مكتمل ولا يلبي احتياجات السكان، مما يُبقي الأزمة على حالها.
مضخات غير قانونية ومياه ملوثة
يعتمد سكان قرى الحويجة وناحية الزاب في محافظة كركوك على مشاريع مياه خاصة، توفرها مضخات غير قانونية تضخ المياه من تفرعات نهر الزاب إلى المنازل. هذه المضخات، التي يديرها أحد السكان، أصبحت ضرورية لسكان المنطقة، نظراً لغياب البدائل الحكومية الجيدة، وفقاً لمصطفى محمود، الذي يصف حال هذه القرى ويؤكد أن هذه المشاريع غير المرخصة تشكل خطراً على الصحة العامة بسبب تلوث المياه.
يوضح محمود في حديثه مع (المدى) أن «هذه المضخات، التي يتم استخدامها في غسل الملابس وري المزروعات، بل وأحياناً للشرب عند الضرورة، تعد مصدراً للمياه غير المعالجة. وعلى الرغم من أن مراكز صحية وباحثين بيئيين حذروا من خطورة استخدام هذه المياه الملوثة، إلا أن السكان لا يملكون بدائل مناسبة لتلبية احتياجاتهم».
وأضاف محمود أن «هذه الظروف أدت إلى ارتفاع ملحوظ في حالات أمراض الكلى في مناطق الحويجة وناحية الزاب، حيث تحتوي المياه غير المعالجة التي تُضخ مباشرة من نهر الزاب على نسب مرتفعة من الأملاح والملوثات. وأمام هذا الوضع، بدأت وزارة الصحة في توزيع "شرائط الكلور" لتعقيم المياه، لكن هذا الإجراء غير كافٍ، إذ إن الكلور يعقم المياه لكنه لا يزيل الشوائب الصلبة والملوثات الكيميائية الأخرى. كما قامت بعض منظمات المجتمع المدني بتوزيع "فلاتر تصفية" على عدد من العائلات، لكن قلة من الأسر تمتلك هذه الفلاتر، مما يترك الغالبية عرضة للإصابة بالأمراض».
نهر الزاب الصغير: شريان الحياة الملوث
يمتد نهر الزاب الصغير، وهو ثالث أكبر روافد نهر دجلة، عبر تضاريس العراق، حيث ينبع من المرتفعات الغربية لإيران، ويتدفق داخل العراق لمسافة 402 كيلومتر قبل أن يصب في نهر دجلة شمال مدينة بيجي في محافظة صلاح الدين. يعبر النهر العديد من القرى والمناطق، بدءاً من منطقة التون كوبري في كركوك، ويواصل جريانه نحو الجنوب الغربي، ماراً بمنطقة كيراو، ومن ثم يعبر منطقة البطمة وقرية شريعة، لينتهي في منطقة الزوية بالقرب من قرية المخلط، الواقعة حوالي 35 كيلومتراً جنوب مدينة الشرقاط.