طالب عبد العزيز
أنا، وقبل البدء، من الذين يفضلّون سماع الراديو على مشاهدة التلفزيون، ويبدو أنها ضريبة العمر، أو هي مدخل من مداخل الشيخوخة، التي يتطلع الانسان فيها الى المزيد من المعرفة، كلما تقدمت به السنوات، وفي المثل الشعبي العراقي يقال: "لذّة الدنيا علومها" حتى لتبدو الجملة هذه صالحةً لتكون مدخلاً في فهم الإعلام من أخبار، قبل أن تولد قنوات البث والسماع والمشاهدة، وليتبين لنا بأنَّ أجدادنا سبقونا في حبِّ الاخبار سعيدها وحزينها.
ولأنني كذلك فأني كثيرا ما أبحث في مؤشر الراديو عن شيءٍ أحبّه، ليس أخبار الحروب والفساد والثورات والانتخابات وغيرها حسب إنما الأخبار التي تجعلني سعيداً، فرحاً، أقل اكتئاباً وتعاسةً، وبصراحة لا تستوقفني محطة عراقية واحدة، وأجدُ أنَّ الإعلام العراقي المسموع والمشاهد منصاعاً لطلب الجمهور، والأخير عاجرٌ وقاصر، يبحثُ عن موجهات حقيقية، وهذه قضية لا يعمل بها أحدٌ في شبكة الإعلام العراقي. أتابع أكثر من عشر محطات تبث على الـ FM في البصرة، وقليل منها في بغداد، ولا أطيق سماعها لدقائق قليلة، هناك تهريج وتسفيه وتخلف في غالب المواد التي تبث، دونما دراية واعية بقيمة ما يستمع له المواطن.
جميل أنْ أسمع صوتُ فيروز من بعض القنوات غير الدينية، في الصباح، وجميل أيضاً أنْ يترك منسقو البرامج مجموعة من الأغاني على البث الطويل ليلياً، لكنَّ البرامج الأخرى بمعظمها لا تجعل السماع ممكناً، أما قضية البث المباشر، واللقاءات مع المواطنين، وربات البيوت، والفارغين والفارغات بخاصة فهو ما لا يطاق جداً. هناك عملية تفريغ كلام تتم بين المذيع والمستمع، لا علاقة لها بالإعلام ورسالته يتوجب ايقافها، فهي عبارة عن اتفاقات مسبقة بين اثنين، يعرفان بعضهما، ويفكران معاً، ويتحدثان بما لا قيمة له، ولا يصلح أن يكون مادة إعلامية، إذْ أنَّ كلَّ ما يقال ويسمع يشير الى التفاهة، التي تجد طريقها الى أذن المستمع، الباحث عن شيءٍ ينفعه أو يسليه.
أمّا عن القنوات الدينية فالقضية أكثر من مأساوية! هذا الجلد اليومي للذات، وهذه الأناشيد الدامية، وهذه الأصوات النشاز، وهذا اليأس المميت، وهذه اللقاءات المكرسة للندب والموت والعذاب محمولة على الخطب والأحاديث والقصص والشواهد التي توظف لفتح السراديب والانفاق المظلمة والتي لا صلة لها بالحياة، هناك قفر شاسع وقبر مفتوح وترويع دائم، وبما يعجّل على المستمع حمل تابوته، غير عابئٍ بما في الحياة من نعيم وهناءة وجمال ولطف، هذه القبور التي تلاحق المستمع الى أين؟ من يوقفها؟ ولماذا التأكيد على وجودها في أرواحنا، نحن نريد من يعيننا على الحياة، لأنَّ الانسان قادرٌ على الذهاب الى القبر بمفرده.
وبعيداً عن حجم التفاهة المبثوث في القنوات غير الدينية وحجم الموت المبثوث في القنوات الدينية أجدني مضطراً الى سماع إحدى القنوات غير العراقية، وبصورة عامة لديّ ثلاث محطات(راديو مونت كارلو، وصوت الخليج، والتلفزيون العربي) أتابع الاخبار السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والفنية من مونت كارلو، هناك لغة عربية نقية بلهجات شامية وسودانية ومصرية وهناك اختيارات ومنوعات وتنسيق يعنى بالتوقيت بين الليل والنهار، وعلى الرغم من انحيازها الأمريكي والاوربي في الاخبار إلا أنّها تجد صعوبة بتمريرها على المستمع النوعي، وكذلك الحال مع التلفزيون العربي، الإخبارية فقط، والتي اختصت بأخبار الحرب في غزة ولبنان، إلا أنَّ شبكة مراسليها الواسعة تجعل المستمع وسط النار والجنود ووحشية الجيش الصهيوني، أما إذا وجدت نفسي ملولا برماً من هذه وتلك جعلتُ مؤشر الراديو على صوت الخليج، المختصة بالأغاني العربية، ثم أجدني مأخوذاً بصوت الإعلامي والشاعر السوداني عبد السلام جاد الله، وهو يفتح أسرار المطربين والشعراء والملحنين، بلغته العظيمة الصافية وبنبرة صوته الأخاذ، وباختياراته الدقيقة لمن يلتقيهم في محطته الغنائية التي تمتد لأكثر من ثلاث ساعات دون أن يشعرني بالملل والضجر.