TOP

جريدة المدى > عام > تحت جدارية فائق حسن

تحت جدارية فائق حسن

نشر في: 11 نوفمبر, 2024: 12:04 ص

حسين الطائي
من لحظات الحظ النادرة في تاريخ العراق الحديث، أن يلتقي الزعيم عبد الكريم قاسم بالمعماري العراقي المعروف رفعة الجادرجي (بغداد1926- لندن 2020) بعد قيام ثورة 14 تموز عام 1958. ويذكر رفعة الجادرجي في كتابه " الأخيضر والقصر البلّوري" أنّ الزعيم طلب منه إقامة ثلاثة مشاريع لنُّصب فنية كبرى في بغداد لتخليد ثورة 14 تموز. تبنى الجادرجي هذه المشاريع الثلاثة وعمل على إنجازها بإخلاص وبشكل احترافي عالي. ولابد لنا من أن نذكر أنّ جميع هذه الأعمال كانت من بنات أفكار الجادرجي نفسه: نصب الحرية الذي كان هو نفسه قد صمم قاعدته، وصمم أعمال النحت ونفذها الفنان جواد سليم (1919-1961)، وصمم الجادرجي ونفذ نصب الجندي المجهول (أزيل النصب عام 1982)، وكانت جدارية "الثورة" التي نفذها الفنان فائق حسن هي المشروع الثالث.
درس فائق حسن (بغداد 1914- باريس1992) وتعلّم وتدرَّب فنياً في المدرسة العليا للفنون في باريس (البوزار)، وعاد إلى البلاد عام 1938، مزوداً بتجربة احترافية عالية لا سيما في الرسم الواقعي، مكنته فيما بعد في أن يكون المعلم الأول للرسم في معهد الفنون الذي أُسس فيه قسم الرسم عام 1939، وصار لاحقاً استاذاً في أكاديمية الفنون في بغداد منذ العام1961 وحتى تقاعده في نهاية الثمانيات من القرن الماضي.
اكتملت جدارية فائق حسن عام 1960 وانتصبت في ساحة الطيران وأطلق عليها في حينها جدارية "الثورة"، وتغير العنوان لاحقاً إلى جدارية "السلام". شكل ظهور الجدارية في فضاء بغداد ظهوراً لأول عمل فني احترافي منفذ بحجم كبير. كان اكتمال جدارية فائق قد سبق ظهور نصب الحرية ومن هنا نعرف الأثر الإيجابي والحضور المؤثر لجدارية فائق حسن. نفذ فائق حسن الجدارية بقطع السيراميك الصغيرة الملونة على لوح اسمنتي شاهق يرتفع إلى 10 أمتار وبعرض 4 أمتار. اجتهد فائق في تصوير حالة الثورة، وتجسيد فكرة التحرر لأغلب فئات المجتمع العراقي لا سيما المرأة. فهي حاضرة بقوة تتوسط الجدارية ترتدي الملابس الحديثة وترفع يدها إلى الأعلى وفي راحة يدها حمامة بيضاء. وعلى الجانب الأيسر كانت تقف المرأة الفلاحة بزي ريفي أحمر تحمل المنجل بيدها وتضع تحت يدها الثانية حصادها من سنابل القمح، وبجانبها على جهة اليسار يقف العامل يحمل مطرقته (المنجل والمطرقة شعار الحزب الشيوعي). وفي أعلى يسار الجدارية يقف الجندي بخوذته المميزة. وتعود المرأة (الأم) لتأخذ مكانها في أسفل وسط الجدارية بوضعية الجلوس بجانب قفص الطيور الذي فتحته لتخرج منه وتتحرر الحمامات البيضاء، ويقف بجنابها طفل صغير، يفتح يده في حركة مبهجة ويحاول الإمساك بحمامة بيضاء أخرى تقف على راحة يد أمه. على جهة اليمين تقف طالبة برداء أحمر وهي تفتح كتاباً، وبجانبها زميلها الطالب يحمل كتابا. في الأعلى تحديدًا على الجانب الأيمن للجدارية يقف رجل بالزي الكردي في دلالة واضحة على فكرة الوحدة الوطنية للشعب العراقي.
يعتمد الفنان فائق حسن على ثنائية الألوان المتكاملة في إخراجه اللوني، الأحمر يقابل الأخضر بدرجات متفاوتة، ما بين الأخضر الفيروزي والأخضر الرمادي وكذلك الحال مع الأصفر واللون البنفسجي واللون البرتقالي واللون الأزرق. واللون الأحمر هو الأكثر تأثيراً لدلالة واضحة.
يستخدم فائق حسن أسلوب المدرسة التكعيبية في تجسيد مشهديه الجدارية ونراه يقترب قليلاً من إنشاء لوحة بيكاسو الشهيرة نساء أفنيون. تحاكي الجدارية كثيراً أيضاً في فكرتها وطريقة تنفيذها ما يصطلح عليه ب" فن الواقعية الاشتراكية" تحديداً في حقبة الاتحاد السوفيتي السابق. لقد ارتبطت هذه التسمية بأيدلوجيا اليسار. والسؤال هنا: هل تم توظيف الفن إيدلوجياً في هذا العمل؟ نعتقد أن الذي حصل تضمن هذا المعنى، ولكن جدارية فائق حسن ونصب الحرية ونصب الشهيد، أعمال اكتسبت صفة البقاء والاستمرار في وجدان الشعب العراقي، لأنها لم تكرس أو ترتبط بمفهوم الحاكم الأوحد، لذلك هي لم تنته بانتهاء الحاكم أو الزعيم.
نادراً ما تخلد الأعمال الفنية في العراق بقصيدة، خاصة إذا كانت لشاعر فذ بمكانة الشاعر العراقي سعدي يوسف. عام 1973 كتب سعدي يوسف عن جدارية "الثورة" للفنان العراقي فائق حسن قصيدته المعروفة " تحت جدارية فائق حسن". يقول سعدي يوسف في قصيدته:
تطير الحمامات في ساحة الطيران. البنادق تتبعها
وتطير الحمامات. تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا
في الرصيف يبيعون أذرعهم. للحمامة وجهان:
وجه الصبي الذي ليس يؤكل ميتاً، ووجه النبي
الذي تأكله خطوة في السماء الغريبة.
تعرضت جدارية فائق حسن إلى التخريب المتعمد في حقبة حكم البعث بطلاء جزء منها باللون الأسود، وفي الحكم (الديني) بعد 2003 كان نصيب الجدارية الإهمال والتجاهل، في الحالتين الأسباب عقائدية وأيدلوجية واضحة. أظهر العراقيون من الشباب خاصةً في انتفاضتهم في تشرين عام 2019 ارتباطهم الوثيق بجدارية "الثورة" فعملوا على تنظيفها وزراعة بعض الشتلات امامها وتجديد إنارتها. لقد شكلت الجدارية مع نصب الحرية الذي يبعد عنها امتاراً قليلة روح فكرة التحرر وجوهرها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: بيت هندل في لندن

المتخيل الحيواني وسرديّة الصحراء

تحت جدارية فائق حسن

ابن رشد في قراءة جديدة للاسباني خوان أنطونيو باتشيكو

"مادلين قبل الفجر" للروائية ساندرين كوليت: حكاية ريفية تحتفي بروح الثورة

مقالات ذات صلة

نداءات كونية للعقل الفضولي
عام

نداءات كونية للعقل الفضولي

بول سي. دبليو. ديفيس*ترجمة: لطفية الدليمي لم يقتصر انسحاري بالعلم وافتتاني به على علم الفلك. كنتُ دوماً مسكوناً بمعرفة (كيف تتحرّك الأشياء؟). عندما بلغتُ السادسة عشرة قرأتُ الكتاب الصغير لآينشتاين عن النسبية Relativity وأحطتُ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram