ستار كاووش
أن تتجول في مدينة فيينا، فهذا يعني أنك تعيش في حلم لامتناهي، تغرفُ الذهب بين يديك، تنسجم مع التماثيل وتتنفس الموسيقى، لتصبح في النهاية أحد مفردات المدينة وتختلط بالجمال المصنوع بإتقان فريد. شوارع، أرصفة، ساحات، نافورات، حدائق، تماثيل ونُصُب عظيمة تمضي بك إلى عصر الباروك ثم تُعيدك الى القرن التاسع عشر وفن الآرت ديكو. هنا يقول الجمال كلمته وهو يمسك يدك ويصحبك معه، لتكونَ جزء من عمارة المدينة وفضاءها الذي ترفرف في رحابه تماثيل الركوكو، وتتمرأى وسط حدائقه حفلات الموسيقى.
في هذه المدينة يُحار المرء الى ماذا ينظر، إلى الأرصفة المتناسقة بعناية قلَّ مثيلها؟ أم الى واجهات البنايات العالية المليئة بزخارف القرن التاسع عشر؟ ينتبه الى الأرائك التي تملأ الشوارع والمنعطفات؟ أم الى إعلانات المتاحف والمعارض الفنية التي تظهر في كل ساحة وشارع ومعبر؟ أم يتناسى الزائر كل ذلك وينتبه لِلُطفِ الناس واسترخائهم وهم يتجولون في هذه المدينة التي تشبه قصراً واسعاً يعود لعصر الباروك.
من أين أبدأ بمدينة أنجبت غوستاف كليمت وإيغون شيله؟ كيف أتحسس الشوارع والجادات التي كان يسير عليها موزارت وبيتهوفن؟ كيف يمكنني إحتواء ملامح الثراء وأستنشاق نسائم الترف وقوة ما صنعه الإنسان لمدينته التي كانت وستبقى خالدة الى الأبد؟ هكذا تساءلتُ مع نفسي حولَ هؤلاء الناس العظماء الذين بنوا هذه المدينة المشرقة وأنا أسيرُ وسط التماثيل المهيبة التي تنهض أمامي وتُطاول البنايات الفريدة، كأنها كائنات عملاقة تصحبني في رحلة خيالية. المقاهي الصغيرة تملأ المنعطفات. المتاحف تفتح أبوابها كل أيام الأسبوع. قلاع تطاول السماء وقصور شاهقة تظهر أمامي في كل ملمح وشارع. وكلما أسهبتُ في مرأى المدينة أكثر، إزدادتْ أسألتي حول تأثيث الجمال الضارب في أعماق وجذور هذا المكان الذي حوله بعض الرجال والنساء الأوفياء الى مكان ساحر؟
لذا قررتُ أن أبدأ ببساطة ودون التفكير بما ستنتهي عليه هذه الجولة، فلا أحد يمكنه التنبؤ بتفاصيل مدينة حية تتشبه بالنساء وتتعطر بالموسيقى وتلتحف بقوة الرجال الذين صنعوا التاريخ. وهكذا صرتُ أذرع شوارع وجادات هذه المدينة وأتحسس سحر المتاجر والمتاحف والمقاهي والبنايات الفاخرة التي تُخفي خلفَ أبوابها الضخمة الكثير من الحكايات والأسئلة.
عند أحد المنعطفات فاجئتني مجموعة من الناس الذين يقفون في صف طويل، وعند إقترابي رأيت بأنهم جاءوا من مناطق مختلفة لزيارة مطعم المعجنات ذائع الصيت (ساخَر) الذي يقدم الكعكة النمساوية الشهيرة (ساخر تورته) والعديد من المعجنات وأطباق الحلوى التي تشتهر بها المدينة، وكلمة ساخَر مأخوذة من اللغة العربية وتعني سُكَّر. تركتُ الناس الذين ينتظرون الحلوى، ومضيت نحو حلاوة المدينة ذاتها، حيث تتفرع الشوارع والأرصفة، لأصل الى مقهى سنترال التي كان يرتادها فرويد والكثير من المشاهير، وحين إقتربت فاجئني صف جديد من الناس الذين ينتظرون الدخول، وهنا عليك أن تنتظر أكثر من ساعة كي تحصل على طاولة صغيرة وفنجان قهوة، فإكتفيتُ بالنظر الى المكان وتفحصه عن قرب ثم تركت الزائرين بإنتظار قهوتهم المفضلة وهم يستعيدون أيام فرويد ومجد فيينا، وذهبتُ لإحتساء القهوة في محل جانبي صغير تديره امرأة متوسطة العمر. بعد قليل، مضيتُ نحو إحدى الساحات فواجهتني لوحة (الحياة) لغوستاف كليمت المطبوعة على الأعلان الكبير لمعرض الرسم الذي سأزوره غداً في متحف ليوبولد، والذي يعرض أعمال أهم ثلاثة فنانين في تاريخ النمسا، وهم كليمت وشيله وكوكوشكا، مرَّرتُ بصري على الوجوه الساهمة في اللوحة، وقبل أن أعبرَ نحو الجهة الأخرى، مَرَقَتْ أمامي عربة يجرها حصانان من تلك التي مازالت تعمل في هذه المدينة التي جمعت التاريخ مع المعاصرة ومزجت بين الشرق والغرب. أكملتُ طريقي وسط بعض البيوت التي إفترشت على واجهاتها لوحات موزائيك إلتمعت احجارها الملونة وسط بعض الألوان الذهبية التي اشتهرت بها فيينا، فتحولت الجادة الى متحف وصارتْ البيوت أعمالاً فنية.
مازلت أتنقل بين منعطفات المدينة، وقد بدأت الشمس تتوهج أكثر، وقد حجب تمثال فرانز يوسف جزءً منها، فإستظليتُ بالتمثال متأملاً دقة صُنعِهِ ورقة تفاصيله وجمال الموهبة التي تقف وراءه، حيث بدا فرانز الذي بنى الكثير من قصور ومتاحف فيينا، يطاول بحصانه الشمس والسماء. تركتُ التمثال الذي بدا ورائي مثل السلويت وهو يغطي الشمس، وعبرت نحو ساحة مكتبة المدينة، وهناك لم أستطع منع نفسي من التساؤل مجدداً (أهذه حقاً مكتبة؟) فقد كانت عبارة عن صرح عظيم يشبه قصراً خيالياً، استقرت على واجهته مجموعة من التماثيل، فيما إنتصب فوق هامته تمثال لكائن اسطوري يحرك جناحيه الذهبيين فوق البناية الضخمة. إقتربتُ أكثر ووقفتُ أمام هذه المكتبة وأدركتُ حجمها الهائل مقارنة بحجم الإنسان.
مضيتُ بجولتي وسط المدينة وغبتُ بين الناس، متمتماً مع نفسي: لماذا نصدق بعض المدن دون غيرها؟ وكيف تحصل بعض الأماكن على تقدير عالٍ ومكانة مهمة في قلب التاريخ… وقبلَ ذلك في قلوب البشر؟