محمد علي الحيدري
صُدم الديمقراطيون بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي أعادت المرشح "المثير للجدل" والرئيس السابق دونالد ترامب للبيت الأبيض مؤيَّداً ليس بالعدد الكافي من المندوبين في المجمع الانتخابي وحسب وإنما بفوز ساحق على مستوى التصويت الشعبي أيضاً.
ومما زاد الطين بلّة أن الجمهوريين استعادوا أغلبيتهم في مجلس الشيوخ مما سيفتح الطريق واسعاً أمام الرئيس المنتخب لتنفيذ أجنداته في السياسة والاقتصاد والهجرة وحقوق المرأة والصحة.
وفي ردود الفعل ذهبت صحيفة نيويورك تايمز الى وصف هذا الفوز المذهل بأنه "غزو للأمة، ليس بالقوة ولكن بتفويض شعبي هذه المرّة"، ورأت أن الولايات المتحدة تقف بعد هذا التطور على "حافة حكم استبدادي لم يسبق له مثيل في تاريخها".
كان الديمقراطيون مقتنعين بإمكانية تحقيق كامالا هاريس الفوز رغم الظروف التي أحاطت بترشيحها ورغم أن استطلاعات الرأي كانت تعطي كلا المرشحين تقديرات متقاربة للفوز. ويعود سبب هذا الإيمان الديمقراطي بالانتصار لأسباب عديدة أهمها قناعتهم بأن المرشح الجمهوري قاد حملة انتخابية وصفوها بأنها "ظلامية" وتنذر بالتمييز والعنصرية والتقسيم وغيرها، وكانوا يراهنون على "وعي" الناخبين في وقفه عند صناديق الاقتراع خاصة وأنه أكد صراحة وعلى الملأ انه سيستخدم القوة ضد خصومه السياسيين، وسيطرد الالاف من الموظفين الفيدراليين، كما سيرحّل بالإكراه العسكري ملايين المهاجرين حتى لو كانوا شرعيين، ويتخلى عن حلفاء أميركا في الخارج، ويستخدم الحكومة كأداة لمعاقبة منتقديه وتصفية الحسابات مع مخالفيه، وبأنه سيكون "دكتاتوراً" منذ اليوم الأول.
ولكن عندما طلب ترامب من الناخبين منحه القدرة على تحقيق كل هذه الوعود المقلقة قالوا له بحرية دون أي ضغط وعبر صناديق الاقتراع: نعم.
ويعتقد الديمقراطيون أنه، وبعد هزيمة نائبة الرئيس التي كانت على وشك أن تصبح أول رئيسة أميركية في تاريخ البلاد، سيجلب الرئيس المنتخب رغم ملفه القضائي غير اللائق أولوياته التاريخية الى البيت الأبيض كما أنه وعلى عكس انتخابات ٢٠١٦ عندما سجل ترامب انتصارا انتخابيا مفاجئا في المجمع الانتخابي وخسارة كبيرة في التصويت الشعبي، سيذهب الى واشنطن هذه المرة وهو يطالب بحقه في ولاية رئاسية واسعة.
والحقيقة أن ترامب اشتغل خلال السنوات الأربع الماضية على إعادة بناء الحزب الجمهوري على مقاساته الفكرية والسياسية مما أنتج حركة شعبية تحمل بصماته وازدادت قوة ومنعة مع الزمن، فبعد هزيمة عام ٢٠٢٠ قضى ترامب وقتا مهما لتشديد قبضته على الحزب لدرجة أن جميع المشرعين والناخبين باتوا يؤمنون ويصدقون وجهات نظره بما فيها ادعاء سرقة تلك الانتخابات التي خسرها.
كما أن الديمقراطيين قلقون جدا من أن ينطلق ترامب في ولايته الثانية حرا أو مقيدا بمعايير سياسية خفيفة بعد حملته التي فاز فيها رغم أنه تحدى الجميع.
وبشكل عام فإن الأداء الانتخابي لترامب، رغم تقدمه في السن وتعرضه لمحاولتي اغتيال، كان جيدا وخاصة في الولايات المتأرجحة حيث فاز بمعظمها، فضلا عن نجاح حزبه في تحويل مجلس الشيوخ من اللون الجمهوري "الأزرق" الى اللون الديمقراطي "الأحمر" محققا اغلبية جمهورية مريحة لسنتين على الأقل.
والحقيقة الأخرى التي سيتألم منها الديمقراطيون طويلاً أن إدارة الرئيس جو بايدن التي عانت داخليا من مشكلات لا يستهان بها من قبيل التضخم والهجرة وغلاء المعيشة تبنت في جانب السياسة الخارجية خيارات كلفت الميزانية الأميركية كثيرا كالتورط في حربي أوكرانيا وغزة وهي إدارة لم تنجح في وضع حد لأي منهما بل إن حرب غزة اتسعت لتشمل لبنان وأطرافاً إقليمية أخرى كإيران والعراق واليمن وسوريا، فيما شكلت المجازر التي ارتكبها الإسرائيليون بحق المدنيين في غزة وجنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية وما تمثله من انتهاكات لحقوق الانسان، حرجاً كبيرا لهذه الإدارة التي دفعت ثمن هذا التماهي مع سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامن نتنياهو حيث بات واضحا أن الناخب العربي والمسلم وتيارا واسعا من الغاضبين الأميركيين في الجامعات والوسط المثقف حجبوا أصواتهم عن المرشحة هاريس بل ومنحها بعضهم لترامب بعد تعهده بوقف الحرب.
وتشير صحف أميركية إلى أن الرأي العام الأميركي تحول لصالح ترامب بشأن القضايا التي كانت ومنذ فترة طويلة محورا لحركته السياسية، بل إن الديمقراطيين سايروه فيها وتبنوا سياسات أكثر صرامة بشأن الهجرة والجريمة في السباق الانتخابي الأخير مما يعكس مدى تأثر تركيزه الدؤوب على مسألة ضبط الحدود ومنع المهاجرين مما يصفها ب"سرقة" وظائف اللاتينيين والسود الأميركيين.
ويرى محللون محايدون أن الديمقراطيين تركوا الانتقادات الجديةلإدارة بايدن وبدلا من قبولها والإقرار بها وتسويق تبريرها، أيدت المرشحة الديمقراطية، بحكم موقعها، وبقوة سياسات رئيسها وأطلقت صرخة للتحشيد من أجل "حماية الديمقراطية" دون تفاصيل عن كيفية اصلاح النظام المكسور بحسب تعبير كثيرين.
لكن عندما أظهرت استطلاعات الرأي أن الاقتصاد لا يزال مشكلة المشاكل تليه تحديات الهجرة وارتفاع الأسعار بادر ترامب من جهته للتعاطي مع هذه المؤشرات فتعهد بقوة بخفض التكاليف وضبط الحدود الجنوبية مع تقديم أفكار ومبادرات تتعلق بترتيب الضرائب وتخفيضها مشددا في ذات الوقت على اللعب على وتر المخاوف الاقتصادية والمالية ومحافظا من خلال ذلك على موقع قوي في استطلاعات الرأي ما دفعه لتوجيه مزيد من الانتقادات والاتهامات لمنافسته.
وقد وصلت النشوة لدى المرشح الجمهوري حدا اعتبر فيه المجموعات التي أدينت بمهاجمة مبنى الكونغرس يوم التصديق على فوز بايدن "سجناء سياسيين" وسيصدر قرارا بالعفو عنهم، وصار يصف يوم حصار مجلس النواب في العاصمة بأنه يوم للحب ونصرة الشرعية بينما الديمقراطيون يتفرجون.
وطوال الحملات الانتخابية أفاد اقتصاديون بأن سياسات الرئيس السابق ستزيد من التضخم وتكاليف المعيشة اليومية وستثير حروبا تجارية عالمية وكلها أمور ستكلف دافعي الضرائب مئات المليارات من الدولارات لكن حملة هاريس لم تستطع توظيف هذه الآراء كما ينبغي ومرت عليها مرور الكرام.
وإذ لا تُعرف بعد خطط الديمقراطيين لمواجهة هذه الخسارة القاسية فإن من الواضح أن الأميركيين سئموا الإدارة الحالية واختاروا التغيير وأرادوه بإرادتهم وحصلوا عليه.