طالب عبد العزيز
لا أريد أنْ أحملَ على ظهري أباً ميتاً آخرَ، ولا حاجة لي بانتظار شيءٍ يحدث، لكي يكون جديداً، ولا أريد أنْ أطلَّ على نهرٍ من نافذةٍ أخرى، حسبي النوافذ التي أغلقت، ولا أفكرُ بمدينة يكررُ باعتُها أسعارَ حاجتي الى الصمت في شوارعها، ولا جدوى من الندم، الوسيلة الوحيدة التي اتقنها. أنْ أُبصرُ خيبتي في الماء، خيرٌ لي من أنْ أتلمسَ هواءً شاغراً، ولتكن الزاوية التي أنحشرُ فيها الساعةَ آخر ما يتهددني في الفرضة الرطبة من الأرض.
لا اريد أنْ اسمعَ أغنيةً بليدةً جديدةً، أنا هنا، وهذا يكفي، ولا أريدُ أنْ أضع قدمي على حجارة الغد، اليوم الوحيد الذي أعرفه جيداً. الزمجرة البعيدة التي اسمعها ستصل اليوم، أمّا السعادة فهي أنْ تجعل الوقتَ أكثر سذاجة من قبل، الوقتُ بحذائه المثالي، في الماضي كانَت السعادةُ يأتي في حمل من الحطب على ظهر أبي، وكانت ممكنةً ايضاً، ذلك، لأنَّ الألمَ ساذجٌ ما لم يتحقق بالموت! أبق عينكَ مغلقةً، لا أريدُ أنْ أراك مغادراً، ولا أريدك عائداً من دوحة الفقد. أنت تحترقُ لأنك أكثرنا سعادة. وإلا فخذ مقعدك على الجادة، وكنْ آنسَ العائدين، ولا تقلق! إنّك لنْ تخبرَ أحداً إذا متَّ.
الخلقُ والكونُ والمعاناةُ والموت: "إنَّها فوضى كريهةٌ، وهذا كلُّ ما في الأمر" هكذا يقول انتوني هوبكنز. إنْ نمتَ وحدكَ سيحتفلُ القرادُ بوجنتيك، وإنْ ضللت الطريقَ سيهتدي رجلٌ آخرَ، وإنْ تقوّسَ ظهرُكَ ستجد الشمسُ ضالتها في عظامك. لم يستردوا أعناقَهم بعد أولئك الذين كان النبيذُ آخرَ عهدهم بالضوء. لقد فرّقت الكؤوسُ بيننا، ولم أجد الوسادةَ التي سأنجو من الليل على أفراسها. أنا في الحقل الخطأ، وعلى المنحنى الصَّواب، رضيتُ بالنار، التي لم تترك أثراً، ولم يعثر أحدٌ على مُنشئِها، في العام الماضي قلتُ ما يشبه هذا، وفي العامِ القادم سأعتمرُ رأسي، لكنْ برضىً غير هذا. سعادةُ جرسِ البيت بأصابع من يضغطُ عليه، أمّا الغربةُ فلا أحدَ يحجبُ ثيابها عنك. ماذا ستكون الحياة إنْ لم تكن جريمةً. إذهبي للاحتفال بزهورك الصفر في مكانٍ آخر أيتها الأكاسيا.
ظلَّ باشلارُ يعتقدُ بأنَّ "الزمنَ الذّكرَ والشّجاعَ ينطلقُ ويحطِّم، وبدلاً من الزمنِ الوديعِ والخاضعِ الذي يتحسرُ ويبكي تنبثقُ اللحظةُ الخُنثى". أنا في الغرفة لأنصِّفُ العالمَ الدائري، ولألقمَ الفراغَ حيرتهُ في الاختيار لا لأودّعَ قطعةَ الهواء التي تعبرُ، ولا لأستقبلَ الرِّعشةَ المنتظرَةَ، ما يستقيمُ من الماءِ لا يأتي بالقارب، الذي وُعدت. كلُّ ما يتدحرجُ في المباهج ليس لي، أنا بعضُ ما يتهدجُ في المغيب ليخضر. السماءُ تغيمُ لأنَّ طائراً يعبرُ البحيرةَ، لا القاربُ زُحْزِحَ، ولا الريحُ هدأت، هكذا، تفخرُ العاصفةُ بالهبوب. إحداهنَّ وبزمن باشلاريٍّ تعودُ من المشفى القريب، لا تلامسُ تنورتُها العشبَ، ولا يمحو الاسفلتُ خطوتها الأخيرة، لم تكبر على الحبِّ، ولم تصغر في المسافة التي بيننا، لكنها غالباً ما تتركُ المصابيحَ مضاءةً في حقيبتها. لا يكفي أنْ تستيقظ باكراً ليقال بأنَّكَ ذاهبٌ، لا اللثمُ ولا القبلُ ما يجعل الليل قصيراً. من الحكمة أنْ تجعلَ سريرَها أبيضَ، ومنها أيضاً أنْ يكون قميصُكَ لزجاً بذكرها. ليست يدك التي تفزعك وأنت تومئ. أيها الآيبُ دائماً، لن تبلغ محطتك الأخيرةَ وإن جئت بعربةٍ من الابنوس، وحيث لا يتحققُ الشوقُ بموعدٍ عند شجرةٍ بعينِها سأنتظرُك.