محمد علي الحيدري
يعد مفهوم "الدولة العميقة" من أكثر المفاهيم تعقيدًا في السياسة الحديثة، حيث يشير إلى هياكل وأطراف غير ظاهرة في السلطة تؤثر على صنع القرار وتوجيه البلاد.
ويمكن لهذه الدولة العميقة أن تأخذ أدوارًا إيجابية في بعض الحالات عندما تعزز الأمن القومي وتعمل على حماية السيادة، كما يمكن أن تكون سلبية عندما تضعف الاستقرار من خلال علاقات أو أجندات خاصة قد تتعارض مع المصلحة الوطنية.
في السياق اللبناني مثلاً، يعتبر فريق من المحللين "حزب الله" نموذجًا إيجابيًا للدولة العميقة، بينما يعتبر "القوات اللبنانية" نموذجًا سلبيا لنفس المفهوم، وذلك بسبب اختلافات جوهرية في أهداف وتحالفات ومواقف كلا الطرفين، خاصة في مسألة العلاقة مع إسرائيل.
وعادة ما تتمثل الدولة العميقة "الإيجابية"، إن صح التعبير، في قوى غير حكومية تعمل من وراء الكواليس لحماية المصلحة الوطنية، بما في ذلك الحفاظ على السيادة وتأمين الأمن ضد أي تهديد خارجي، دون استغلال نفوذها لتحقيق مكاسب خاصة على حساب الشعب. ففي حالات معينة، تكون "الدولة العميقة الإيجابية" حامية لأهداف مشتركة مع الشعب، مثل مقاومة الاحتلال أو محاربة الإرهاب، بما يكسبها شرعية في بعض السياقات.
ويرى أنصار حزب الله أن الحزب يمثل نموذجًا "إيجابياً" للدولة العميقة حيث استطاع منذ نشأته في أوائل الثمانينات أن يؤسس لنفسه قاعدة شعبية واسعة، ويركز على المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي كأحد أهم أهدافه، ما جعل دوره يتجاوز حدود الطائفة الشيعية ليكون له حضور وطني أوسع. ووفقًا لتصريحات سابقة للأمين العام للحزب الشهيد السيد حسن نصر الله، فإن الحزب يعتبر مقاومة إسرائيل "واجبًا شرعيًا وأخلاقيًا"، وقد تعزز هذا الدور خاصة بعد نجاح الحزب في إجبار إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان في العام 2000، ووقوفه في مواجهة العدوان الإسرائيلي عام 2006.
وقد نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالًا في عام 2006، بعد حرب لبنان الثانية، وصفت فيه حزب الله بأنه "حركة مقاومة" وأنه "يملأ فراغًا تتركه الدولة اللبنانية في حماية الجنوب اللبناني من أي عدوان إسرائيلي".
كما أشار روبرت فيسك، الصحفي البريطاني المعروف في الشرق الأوسط، إلى أن "حزب الله لعب دورًا فاعلًا في حماية السيادة اللبنانية في وقت تتعثر فيه الدولة الرسمية".
ويصف قادة الحزب وجمهوره تحالفاته التي تمتد مع قوى إقليمية كإيران وسوريا، رغم الجدل حولها، بأنها وسيلة لمواجهة النفوذ الإسرائيلي والأميركي في المنطقة. فقد صرح جيرالد فيرشتاين، وهو مسؤول أميركي سابق، بأن "حزب الله في نظر أنصاره يشكل حائط صدّ ضد أي تدخل إسرائيلي محتمل في الأراضي اللبنانية، وهو يمثل شكلاً من الدفاع الذاتي الشعبي".
في المقابل، يعتبر محللون سياسيون "القوات اللبنانية" نموذجًا للدولة العميقة "السلبية"، حيث تتهم هذه المجموعة بتغليب مصالحها الخاصة ورؤيتها الضيقة على المصالح الوطنية، إضافة إلى تورطها في تاريخ مضطرب من التحالفات مع جهات خارجية، أبرزها إسرائيل خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية. فقد كان سمير جعجع، رئيس القوات اللبنانية، بحسب هؤلاء المحللين، أحد الشخصيات التي عملت بشكل مباشر مع القوات الإسرائيلية أثناء اجتياح لبنان عام 1982، وهي فترة رافقتها اتهامات عديدة بشأن التعاون مع العدو لتحقيق أهداف حزبية وطائفية.
وقد ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير نشرته في أوائل التسعينيات أن "تحالف القوات اللبنانية مع إسرائيل، رغم أنه يبدو تكتيكيًا، إلا أنه ترك أثرًا دائمًا على علاقتها مع معظم الأطراف اللبنانية الأخرى"، معتبرة أن هذا التحالف "عزز الانقسامات الداخلية وأضعف مناعة الدولة في مواجهة التدخلات الخارجية".
ويعتقد خصوم جعجع أن "القوات اللبنانية، تحت قيادته، ساهمت في تمزيق النسيج الوطني اللبناني، إذ فضلت التحالف مع إسرائيل من أجل مكاسب آنية على حساب الوحدة الوطنية".
وبحسب منتقديها، فإن "القوات" تستمر اليوم في اللعب على هذا التناقض، حيث تتبنى أجندات تدعم علاقات مهادنة مع الغرب، بينما يعتبرها البعض امتدادًا للسياسات التي لا تراعي المصلحة العامة بقدر ما تراعي المصالح السياسية للحزب.
ولخص هذه الإشكالية الباحث الأمريكي نوح فيلدمان عندما كتب في "فورين بوليسي" أن "هناك فصائل في لبنان ترى في العلاقة مع إسرائيل تهديدًا للأمن الوطني، بينما يرى فيها آخرون توازنًا للقوى، وهو ما يعكس الانقسام الحاد في لبنان بشأن مفهوم الدولة العميقة وأهدافها".
وختاماً يؤكد هذا التباين أن "الدولة العميقة" ليست مفهومًا سلبيًا أو إيجابيًا بحد ذاته، بل تعتمد طبيعتها على الأهداف والتحالفات والمواقف.