د. طلال ناظم الزهيري
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 دخلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في سباق للاستفادة من العلماء والتقنيات الألمانية المتقدمة التي تم تطويرها خلال الحرب. فقد أحرزت ألمانيا تقدمًا كبيرًا في مجالات عدة مثل الصواريخ بعيدة المدى والطيران النفاث وتكنولوجيا الأسلحة. لذلك سعى كلا الجانبين إلى استقطاب العلماء الألمان بطرق مختلفة. على سبيل المثال قامت الولايات المتحدة بوضع برنامج متكامل لجذب العلماء الألمان إلى أراضيها للاستفادة من خبراتهم وذلك ضمن ما عُرف بمشروع "مشبك الورق" (Operation Paperclip) وهو برنامج سري أطلقته الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان الهدف منه تجنيد العلماء الألمان الذين عملوا في برامج الأسلحة الألمانية خصوصًا في مجالات الصواريخ والأسلحة الكيميائية والتقنيات العسكرية الأخرى.
أطلق على هذا المشروع اسم "مشبك الورق" نسبة إلى المشابك التي كانت تُستخدم لتثبيت ملفات هؤلاء العلماء أثناء عملية مراجعة خلفياتهم وتقييم مدى ملاءمتهم للعمل في المشاريع الأمريكية. ركز مشروع "مشبك الورق" بشكل خاص على العلماء الذين شاركوا في تطوير الصواريخ وأبحاث الفضاء. من أبرز هؤلاء العلماء كان "فيرنر فون براون" الذي أصبح لاحقًا قائدًا رئيسيًا في برنامج الفضاء الأمريكي وساهم في تصميم صاروخ "ساتورن V". ساهم المشروع بشكل كبير في تطوير برنامج الصواريخ الأمريكي وكان له دور أساسي في إطلاق أول قمر صناعي أمريكي وتطوير قدرات الدفاع الصاروخي بالإضافة إلى مساهمته في مشروع "أبولو" الذي أوصل أول إنسان إلى القمر.
ويعتقد اليوم أن هذا المشروع كان من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى نجاح الولايات المتحدة في سباق الفضاء ضد الاتحاد السوفيتي. وعلى الرغم من الجدل الأخلاقي الذي أثاره بسبب استقدام علماء كانوا قد عملوا ضمن النظام النازي إلا أن مصلحة الولايات المتحدة كانت تفوق كل الاعتبارات الأخرى.
وفي سياق مشابه وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 سعت العديد من الدول إلى استقطاب العلماء والمهندسين من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق الذين كانوا يعملون في مجالات متقدمة مثل الصواريخ والأسلحة النووية وأبحاث الفضاء والتكنولوجيا العسكرية. ومن هنا أطلقت الولايات المتحدة برنامج "Nunn-Lugar" المعروف باسم "برنامج تخفيض التهديد التعاوني" بهدف الحد من انتشار الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق. وكان من بين أهدافه استقطاب العلماء من الجمهوريات السوفيتية العاملين في مجالات الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية وتقديم فرص عمل أو أبحاث مدنية بديلة لهم خارج بلدانهم.
هذه البرامج والمشاريع التي تم ذكرها تُعد دليلًا على أهمية الاستثمار في العقول وحرص الدول على توفير بيئة مثالية للتميز العلمي ورعايته بالشكل الذي يضمن تحقيق التقدم والتطور المنشود. في المقابل تتنافس بعض الدول العربية فيما بينها لاستقطاب لاعبي كرة القدم أو راقصات الباليه والجمباز من مختلف دول العالم وتوفر لهم كل الإمكانيات لتحقيق الميداليات في المنافسات الدولية بعد أن أصبح المجال الرياضي هو الميدان الوحيد الذي نمتلك فيه أملًا وإن كان ضئيلاً في المنافسة مع الدول الأخرى. وأنا هنا لا أقلل من أهمية الرياضة والرياضيين أو من قيمة تحقيق الإنجازات الرياضية ولكنني أرى أن هناك ما هو أهم وفقًا لسلم الأولويات.
قد تجلب رأسية (أيمن حسين) السعادة لنا ولكنها لن تحقق لنا استقرارًا في الطاقة الكهربائية مستقبلاً. ومهارة (علي جاسم) بالتأكيد لن تحقق لنا الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية. وتصدي (جلال حسن) لن يمنع اختراق أجوائنا أو تكرار انتهاك سيادة الدولة. إن ما تقدمه الحكومة العراقية للرياضيين من دعم خاصة في مجال البنية التحتية وبناء المنشآت والملاعب هو أمر جيد لكن يجب ألا يكون على حساب المجالات العلمية.
دول مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية التي تعد اليوم في مقدمة الدول الصناعية لا تمتلك فرقًا لكرة القدم تستطيع أن تنافس على المستوى القاري. وحتى اليابان كانت قد أجلت اهتمامها بكرة القدم حتى عام 1992 عندما حققت كأس آسيا لأول مرة. وبالتالي نحن اليوم بحاجة إلى لفت انتباه الحكومة العراقية إلى أهمية رعاية التميز الأكاديمي وتوفير الدعم والموارد اللازمة لضمان بيئة علمية ملائمة لتحقيق الإنجازات في مختلف الأصعدة. ولا شك أن تطوير القاعدة العلمية في العراق يتطلب استراتيجية شاملة تجمع بين الاستثمار الحكومي وتهيئة بيئة ملائمة للنهوض بالعلوم والتكنولوجيا. وفيما يلي نقدم بعض المقترحات القابلة للتطبيق والتي تتماشى مع ظروف العراق الحالية:
- بناء مراكز بحثية تطبيقية متخصصة في قطاعات حيوية مثل المياه والزراعة والطاقة المتجددة بهدف إيجاد حلول للتحديات المحلية. يمكن توقيع اتفاقيات مع جامعات ومراكز بحثية دولية لنقل المعرفة وتدريب الباحثين العراقيين بالإضافة إلى دعم المشاريع البحثية المشتركة.
- بدلاً من إرسال الطلاب بشكل عشوائي يتم اختيار تخصصات ذات أهمية مثل الذكاء الاصطناعي الطب الحيوي والطاقة المتجددة مما يسهم في بناء قاعدة علمية متينة تعود بفائدة مباشرة على البلاد. كما نؤكد على أهمية تخصيص منح مالية لدعم مشاريع الطلاب والباحثين المتميزة مع الاهتمام بتطوير الأفكار القابلة للتطبيق.
- إنشاء حاضنات تقنية لدعم الأفكار الريادية داخل الجامعات العراقية وربطها بشركات القطاع الخاص لتحقيق نمو مستدام لهذه المشاريع. كما يجب تقديم حوافز ضريبية للشركات التي تستثمر في البحث العلمي والتطوير أو تدعم المشاريع البحثية الطلابية.
- تحديث المناهج الدراسية بإدخال المهارات الحديثة مثل البرمجة وتحليل البيانات مما يساعد الطلاب على تلبية احتياجات سوق العمل. كما يجب إعطاء الطلاب فرصًا أكبر لإجراء أبحاثهم الخاصة ودمجهم في مشاريع عملية تحت إشراف أساتذة مختصين.
- إنشاء قاعدة بيانات وطنية تتيح للشركات والجهات الحكومية الاطلاع على مواهب الباحثين والعلماء العراقيين سواء داخل العراق أو خارجه بهدف تسهيل استقطابهم للعمل على المشاريع الوطنية بالإضافة إلى تتبع الاحتياجات التقنية والعلمية المستمرة للعراق وتوجيه الجهود التعليمية وفقًا لذلك.
- تأسيس صندوق حكومي أو مشترك بين الحكومة والقطاع الخاص لتمويل الأفكار المبتكرة في مجالات مثل الصحة والزراعة والتعليم بهدف تحقيق أثر اجتماعي واقتصادي مستدام. ويجب تخصيص جوائز ومنح دورية للباحثين والمبتكرين لتحفيز المنافسة وتشجيع الأبحاث التي تقدم حلولًا للتحديات المحلية.
- تزويد الجامعات ومراكز البحث بالبنية التحتية الرقمية الحديثة مثل قواعد البيانات والمكتبات الرقمية وشبكات الحوسبة السحابية مما يسهم في تسهيل عمليات البحث والوصول إلى المعلومات. كما يجب إطلاق منصة مفتوحة تتيح للباحثين العراقيين نشر أبحاثهم باللغة العربية والإنجليزية.
- تقديم حوافز مغرية للعراقيين المتميزين في الخارج للعودة والمساهمة في تطوير القاعدة العلمية مثل منح عقود عمل مرنة وفرص بحثية مميزة. ويجب إنشاء برامج تتيح للخبرات العراقية في الخارج المساهمة عن بُعد من خلال تقديم استشارات أو إشراف علمي على مشاريع داخل العراق دون الحاجة للعودة الكاملة.
كل من هذه المقترحات من شانها ان تسهم في بناء قاعدة علمية قوية ومستدامة في العراق وتعمل على توجيه الاستثمار الحكومي نحو دعم القدرات العلمية المحلية وتهيئة بيئة حاضنة للابتكار وتطوير المواهب مما يسهم في تحقيق التقدم العلمي والتنمية المستدامة.