TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

نشر في: 24 نوفمبر, 2024: 12:03 ص

طالب عبد العزيز

أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب الآنَ، والسماء تجودُ بغيثها الأول، ولأقل المتأخر في شتاء البصرة هذا العام، جاعلةً الارضَ غيرَ الأرض بالأمس، والنخلَ غير النخل فهو أكثر ينعاً وخضرةً من حولي، والطريقَ مأخوذةً بالنسائم، محفوفةً بعطرها القديم، حيث كنتُ أملاُ رئتي، وتشملني الأشجارُ بعطفها ولطفها، أنا المدين لها بكل ما بين يدي من المباهج.
قد لا يصدِّقُ البعضُ إخفاقي في كتابة الكثير من النصوص بالصيف! فالحرُّ والشمس والتعرّق ألدُّ أعدائي. أنا رجل شتوي بامتياز، وأحمل في جسدي طفولةً غريقةً ونديةً بماءٍ يطيب لي أن أرزح في اطيانه، فروحي منقوعةٌ بسنين باردة ومطيرةٍ، لا أريد مغادرتها. أكرهُ بيت الطابوق والاسمنت، وبي حنين لا يصدّقُ الى بيتنا القديم، بيتنا الطيني، المخصوفة حياطينه بالقصب، والسعف والجريد، ولن آبه ما إذا سقط شيءٌ من طينه على رأسي حتى، أو جئت بحذاء موحل، وبقدمين رطبتين، وإنْ صعدت منهما الحمّى، وألزمتني الفراش، أبداً والله، أجدني مشدوداً من شراسيف قلبي الى هناك، الى البلل، والاطيان، والمزاريب المنهمرة، والسقوف التي خرّقها المطر في الليل، الى القدور والطشوت التي كانت تنقلها أمّي الى حيث يكون الخرق، الى صوتها بالقطرات الحبيبة تلك، وهي تجعل النوم مستحيلاً.. مع أنني لم أغادر الارضَ هذه منذ عقود سبعة.
يعْرِفُ عيالي عِشقي للمطر والافياء والريح الباردة البليلة، ومازلت أكرر عليهم وصيتي بدفني، في الركن الذي اخترته بنفسي، ليس بعيداً عن النهر، لكنه الأكثر نأياً عن المدينة وصخبها، الى ساقية لا ينقطع ماؤها، هنا في الأرض، خاصتي، حيث ولدتُ وحيث ستنتهي رحلة العيش.
يبدو أنَّ المخلوقَ سيظلُ يحمل في جنباته حياته الأولى سنينَ طوالاً، ويتعاظم الامرُ عند كلِّ ذي صنعةٍ، ولا أخصُّ الكتابةَ، وعندي من الأهل والأصدقاء من لو خيرته اليوم بين العودة الى الماضي وما ينعم فيه اليوم لأختار الماضي، دونما أسف وندم. أسرّني سعدي يوسف الشاعرُ مرةً بقوله، أتعلم يا طالب ماذا أرجو وأتمنى؟ قلتُ: ماذا؟ فقال: "غرفةٌ صغيرة على شط العرب ونخيلات وكفى" هو الذي شرّقَ وغرّبَ، سفراً وسكناً وإقامةً، وجمع المال، واستغنى، وعرف اللغات، وتنعم بالثياب وتطعّم المآكل والاشربة والانبذة، وحظيَ بالمسرات التي منها المدن والصحبة والامجاد والنساء.. أيعقل أنه يتمنى المسكن الفقير هذا؟
يقول سارماغو قد كتب بأنَّ جده وقبل أن يموت كان قد ودّعَ اصدقاءه وأهله والطبيعة لأنه أراد أن يكون حاضراً ومشعّاً عند مجيء الموت. لهذا عانق الأشجار التي تحتفظ بصفحات كتاب حياته. وهو الذي كان يقول:" سأنظرُ بالصمت الذي به تثقِّب جذورُ النباتاتِ الأرضَ".
مع أنني أعرفُ بأنَّ أقصر طريقة لجعل زهرة تموت هي إجبارها على التفتح بقوّة، إلا أنني كثيراً ما كنتُ استعجلُ الفسائل إنباتاً وتمراً، وأقلام الورد زهوراً، وبذور الخضار ينعاً وخضرةً. أتذكرُ أنَّ صالح لفتة الحايي، وهو فلاح في قريتنا، كان ينسبُ الى بذور الرشاد قولاً غريباً، فهو يدّعي بأنّها أعجل البذور إنباتاً في الأرض فهي تقول:" لولا مخافة الله لطلعتُ بين أصابع الباذور" هكذا، يمكنني أنْ أصف علاقتي بالطبيعة، وهكذا تنسجُ حكايتها الى اليوم. كنتُ أرى الفلاحين نائمين بين السواقي المزروعة بالخيار واللوبياء، وحين سألتُ: لماذا؟ قالوا بأنهم يخشون من عبث الثعالب والخنازير بزروعهم، لكنني في الصباحات كنت أراهم وهم يجاهدون في فكِّ تشابك الزروع عليهم، حيث ناموا، كنت أرى أغطيتهم خضراء، وبزهور كثيرة، أرأيتم عشقا كهذا؟ عناقاً كهذا؟ ظلَّ أهلي في الأرخبيل الرطب يعلقون أسبابَ حياتهم على النخل، ولم يتوقفوا عند موضع فيها، فهم يقولون عن الشعر إذا كان سبطاً، شعرُ فلان خوصيّ، وإن جاءتهم امرأة فارعة جميلة، قالوا عيطاء، وإنْ طاب لهم كلام قالوا كلامه حلواً كالرطب وهكذا.
ولمن يريد أن يستعيد الحياة نديةً، باذخة الجمال في البصرة وأبي الخصيب بالذات فليقرأ قصائد بدر شاكر السياب وسعدي يوسف، في القصائد تلك سيجد الطبيعة بكل إهابها وجمالها، وسيتلمس الأرض والماء والنخل والفاكهة والافياء وجملة العلاقات، وسيرى الأرض التي كانت واحدةَ الدنيا، لا بجمالها حسب، إنّما بكل ألّفتها وتناقضها وتقلبها في الدهور.
لا أخفي شكوكي التي منها أنني ربما أكون قد استنفدتُ مفردات الطبيعة أو القرية، في أعمال كثيرة كتبتُها، أو أنني اصبحتُ اسيرَها، أو توقف معجمي اللغوي عندها، لكنني، كنتُ أشعر بأنها ماتزال كبيرةً -المفردات أعني- ولها القدرة على انتاج نصوص جديدة، ذلك لأنني خالص لها ومنطبق عليها، فهي مفردات وحياة داخل اللغة، وهي متشكلة في الروح، قبل تشكلها في الابجدية والكتابة.
نحن لا نفتقد البيئة اليوم وقد أتت عليها آلةُ الإهمال والتوسعة العمرانية المرتجلة، وغير المدروسة، إنما نفتقد جملة من الانساق اللغوية والحياتية اليومية. هناك شبكة علاقات واسعة جداً، ظلت قائمة حتى الحرب الإيرانية- العراقية، هي قوام الحياة في غابة النخل والفاكهة التي كانت، ليس أقلها إهداء الفسائل وأقلام العنب، وقوارير ماء الورد واللقاح، ولا تبادل البذور، وأحقاق اللبن، ولا ثغاء الخراف، ولا خوار الابقار، ولا هديل الحمائم، ولا تغاريد البلابل، ولا زقزقة العصافير، ولا نواح الفواخت، ولا الفزع من القبّرات، ولصوصية الثعالب، ولا اقتحامات الخنازير، ولا استئذان السلاحف، ووقوفها الحيي على عتبات المنزل، ولا سرقات الغربان للصابون، ولا خطوات مالك الحزين في الشطآن، ولا قدور الماء في الشرائع، مدفوعة بالمد، أو مأخوذة بالجزر…. فوالله لو أُتيتُ الوقت لما انتهيت عند رقم بعينه، وعندي مما افتقده ما لا ينفد بالساعات ولا ينتهي بالأيام والسنوات، غير متوقف عن حاجة شخصية لي، إنّما هي ما أبكيه وأتحسَّره في عيون قومي هناك، وبما ليس في رأس أحدٍ هنا. عن طائفة العلاقات الإنسانية الممتدة في الدهور، وعن حياتهم في الكائنات تلك أتحدث، فقد كانوا الاهل والقوم والجيرة والمحبة والحنو والرفقة والصحبة والسؤال الذي لا يَكْمِل بالإجابات!
*الخَصِيبيِّين نسبة الى أهل أبي الخصيب

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

باليت المدى: أسد عراقي في متحف

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram