بغداد / جنان قاسم
في مشهد يعكس أزمة إنسانية واجتماعية عميقة، تعيش محافظة الديوانية أوضاعًا بيئية كارثية تتمثل في انتشار أكوام النفايات في مختلف مناطقها. يعاني الأهالي من مشكلات بيئية وصحية متفاقمة، وفيما يضطر الفقراء للعمل في جمع وفرز النفايات وسط ظروف قاسية، تُعرف بظاهرة "النبّاشة".
مخاطر صحية تهدد الحياة
في ظل انعدام إجراءات السلامة الصحية، يتعرض النبّاشون لمخاطر عديدة نتيجة التعامل المباشر مع النفايات، وخاصة الطبية منها. وتحدث بعضهم لـ"المدى" عن معاناتهم اليومية. يقول أحدهم: «معظمنا يعاني من جروح متفاوتة الخطورة، وبعضها سببه نفايات طبية مثل الإبر والكانولات وأدوات جراحية أخرى، مما يعرضنا للإصابة بأمراض معدية خطيرة».
وتبدأ معاناة هؤلاء منذ ساعات الصباح الأولى، حيث يقضون يومهم في البحث بين أكوام القمامة حتى غروب الشمس، في بيئة عمل تفتقر إلى أبسط مقومات الحماية.
ولا تقتصر المخاطر على النبّاشين فقط؛ إذ تنتقل الأمراض الناتجة عن التعامل مع النفايات إلى المجتمع الأوسع من خلال الحشرات والأحياء المجهرية، ما يؤدي إلى تفشي الأمراض والأوبئة.
606 أطنان من النفايات يومياً
في حديث خاص لـ(المدى)، صرح المهندس فراس، مسؤول قسم البيئة في محافظة الديوانية، قائلاً: «تُنتج المحافظة نحو 606 أطنان من النفايات المنزلية يوميًا، ما يعادل 1.25 كغم لكل فرد يوميًا. لكن النفايات تُجمع وتُطمر في مواقع غير مؤهلة، بسبب افتقار المحافظة إلى منشآت طمر صحي ملائمة». وأوضح أن «غياب نظام فعال للطمر الصحي ساهم في تدهور الوضع البيئي وانتشار الأمراض. نحن بحاجة ماسة إلى إنشاء طمر صحي نموذجي ومعامل لتدوير النفايات، لكننا نواجه عقبات تتعلق بتوفير الأراضي المناسبة وتعقيدات التمويل والإجراءات البيروقراطية». وأشار فراس إلى أن البلدية حاولت الحد من ظاهرة النبّاشة بالتنسيق مع شرطة الديوانية. وأضاف: «تم تخصيص دوريات من قيادة شرطة النجدة بالتعاون مع وحدة الطمر الصحي لمنع النبّاشين من دخول مواقع الطمر وحرق النفايات، وتم اتخاذ إجراءات قانونية ضد المخالفين. ومع ذلك، لا تزال الظاهرة مستمرة بسبب غياب حلول جذرية للأزمة».
شهادات من أرض الواقع
يُجسد العاملون في جمع النفايات قصصًا مروعة عن صراع البقاء وسط أكوام القمامة. "أم محمد"، واحدة من هؤلاء، تحدثت لـ(المدى) قائلة: «لم أتخيل يومًا أن أضطر للعمل هنا، لكنني مجبرة. ابني مريض ويحتاج إلى علاج مستمر. أجمع البلاستيك والمعادن يوميًا لتأمين المال، فلا أحد يساعدنا». وتضيف: «هذا العمل شاق جدًا، لكنني أضطر لمواصلته لأنني لا أملك خيارًا آخر». سعاد، شابة عشرينية، تحلم بمستقبل أفضل لكنها اضطرت لترك الدراسة بسبب الفقر. تقول: «كنت أحلم بدراسة الهندسة، لكن الظروف أجبرتني على ترك المدرسة. أعمل بين أكوام النفايات لجمع البلاستيك والمعادن لتوفير قوت عائلتي. العمل هنا صعب للغاية وخطير، لكنه الخيار الوحيد المتاح أمامي».
أسعار النفايات وأرباح ضئيلة
بعد جمع وفرز النفايات، يعيد النبّاشون تعبئتها على شكل مكعبات مضغوطة تُنقل باستخدام عجلات أو سيارات صغيرة إلى معامل إعادة التدوير في إقليم كردستان. وتتنوع أسعار النفايات التي يجمعونها؛ حيث يُباع الكيلوغرام الواحد من الحديد بـ 200 دينار، والبلاستيك بـ 250 دينارًا، في حين يُعد الألمنيوم الأعلى قيمة بسعر يتراوح بين 1000 و1250 دينارًا للكيلوغرام الواحد. ومع ذلك، فإن هذه الأسعار لا توفر دخلًا كافيًا. لتحقيق دخل شهري يبلغ 400 دولار، يحتاج العامل إلى جمع ما يقارب ثلاثة أطنان من النفايات شهريًا، وهو تحدٍّ يومي شاق.
التأثيرات البيئية والصحية الكارثية
الدكتور عاصم جاسم، خبير بيئي، حذر من المخاطر الصحية والبيئية الناتجة عن تراكم النفايات وحرقها. يقول: «النفايات في الديوانية ليست مجرد مخلفات، بل قنبلة بيئية موقوتة. الغازات السامة مثل الديوكسينات والفورانات الناتجة عن حرقها تشكل خطرًا كبيرًا على الصحة العامة، حيث تؤدي إلى زيادة معدلات الإصابة بالأمراض التنفسية والسرطانية». وشدد جاسم على ضرورة إنشاء محطات متخصصة لتدوير النفايات لتقليل هذه المخاطر، مشيرًا إلى أن «هذا النوع من المشروعات لا يحسن البيئة فحسب، بل يوفر أيضًا فرص عمل للشباب، مما يساهم في تقليل البطالة وتحسين الاقتصاد المحلي».
غياب الحلول الفاعلة
الناشطة المدنية رسل زيد، بدورها، أكدت أن الجهود الحكومية لحل أزمة النفايات لا تزال محدودة للغاية. تقول لـ(المدى): «الفساد والتقصير الحكومي يعوقان تنفيذ أي مشاريع جادة لمعالجة الأزمة. هناك العديد من المشاريع المقترحة، لكنها لا ترى النور بسبب غياب التخطيط والتنفيذ الفعال».
وأضافت: «الشباب في الديوانية يعانون من قلة الفرص وعدم وجود مشاريع توفر لهم عملًا مستدامًا. الكثير منهم يلجأ إلى الأعمال غير الرسمية مثل جمع النفايات، ما يزيد من معاناتهم».
وأشارت زيد إلى أهمية تبني خطط شاملة لتحسين الوضع البيئي والاقتصادي، من خلال مشاريع تدوير النفايات التي توفر فرص عمل آمنة ومجدية، وتساعد في بناء مستقبل أفضل للشباب.