د. فالح الحمــراني
إن قضية أمن البلاد ليست ذات أفق عسكري وحسب، وإنما لها مكون سياسي يقوم على تمتين الوحدة الوطنية والسير بالعملية السياسية على أسس صحيحة،يفتقدها العراق اليوم. وفي هذا السياق يضع تلويح إسرائيل بشن عدوان على البلاد، يضاهي وفقا لتقارير صحفية العدوان الغاشم على لبنان، القوى التي تقبض على دفة الحكم في البلاد منذ انهيار الديكتاتورية أماماختبار عسير لتبرهن على كفاءتها في حماية أمن البلاد، ومراجعة بموضوعية ونكران ذات، ما الذي قامت به على هذا الصعيد، وما هي حصيلة جهودها في بناء قوات مسلحة قادرة على التعامل مع التحديات الأمنية الإقليمية والدولية.ويستدعي الموقف إجراء القوى المسؤولة دراساتنقدية للسير بالعملية السياسية ليس فقط وفقا لأحكام القانون ومتطلبات الدستور، وإنمالما كان المواطن العراقي يأمله من وينشده من مرحلة ما بعد سقوط الديكتاتورية بإقامة دولة القانونوالعدالة الاجتماعية، واحترام القانون وترسيخ الأمن الوطني والشخصي، والاستقلال في القرار السياسي بعيدا عن الوصايات الأجنبية مهما كان مصدرها، وإقامة دولة المواطنة وليس الهوية مهما كان أصلها.
وعلى خلفية التهديد الإسرائيلي نشطت الحكومة على الصعيدين الدبلوماسي والعسكري لثني المعتدي من ارتكاب جرائمه وإلحاق الأذى بأمن البلاد وبنيتها التحتية الهشة أصلا. وتؤكد الحكومة على لسان رئيسيها السيد محمد السوداني أن العراق لايزال يرفض الدخول في الصراع الإقليمي الذي نشأعلى خلفية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023 في جنوب إسرائيل. كماطلب رئيس الحكومة العراقية من الأمم المتحدة" اتخاذالإجراءات اللازمةلاحتواءإسرائيل ومحاسبتهاعلى انتهاكاتها للقانون الدولي". وفي خطوة منفصلة، دعا السوداني الجامعة العربية إلى"اتخاذ موقف قوي وموحد ضد التهديدات الإسرائيلية"واتخاذ "إجراءات عملية ضدالدولة اليهودية كجزء من تنفيذ مبدأ الدفاع المشترك".
وأعلنت إسرائيل عن أنها ستنفذ سيناريوالعدوان الغاشم على البلاد،إذا لم توقف القيادةالعراقية نشاط التشكيلات المسلحة غير النظامية (المليشيات)المحلية. وحذرت إدارةالرئيس الأمريكي جوزيف بايدن بغداد من أن الهجمات قادمةلامحالة ( أين المعاهدة الأمنية بين البلدين؟).وأفادت تقارير صحفية إن البيت الأبيض أبلغ القيادة العراقية بأنها ستنفد كافة وسائل الضغط على إسرائيل،وبحسب تلك التقارير،فإن إدارة بايدن أبلغت سلطات البلاد أن القصف من جانبها أمرلامفرمنه إذا استمرت من وصفتها بـ "الجماعات الشيعية القريبة من إيران"في العمل من الأراضي العراقية.
ويعتقد المسؤولون الإسرائيليون وفقا لتقارير عسكرية،أن احتمال التصعيد ضد العراق مرتفع للغاية ويقولون إن حكومة نتنياهو ترسل إشارات واضحة عبرالقنوات الدبلوماسية والاستخباراتية بأنها لن تسمح بفتح جبهة أخرى على رأس غزة ولبنان. ومع ذلك، وحسب تقديرات المراقبين،فإن الواقع على الأرض هوأن الفصائل والتشكيلات المختلفة هي المركز الموازي لصنع القرار في العراق وغالباً ماتعمل خارج استراتيجية الحكومة المركزية،التي،كما أظهرت الأشهرالأخيرة، إن الحكومة لاتستطيع التأثيرعليهاحتى من خلال وساطات دولة جارة. وعلى ما يبدو إن واشنطن لا تتحفظ على قصف إسرائيل مراكز التشكيلات المسلحة غير النظامية التي تهاجم ايضا القوات الأمريكية في العراق وسوريا كجزء من استراتيجية أوسع لتقويض نفوذ الولايات المتحدة الإقليمي.
وفي إطار نشاط الحكومة العراقية الرامية لإحباط الحجج الإسرائيلية، وكذلك الدفاع عن سيادة العراق وحرمة أراضيه وسلامة شعبه، اتخذت الإجراءات لتعزيزالحدود من قبل رئيس الوزراءالعراقي محمدالسوداني شملت نشرقوات إضافية في الجزء الغربي من البلاد،بالإضافة إلى" إنشاء منطقةعازلة داخل البلاد"،حسبما أبلغ المتحدث باسم القيادة العسكرية العراقية يحيى رسول. وأضاف أنه في الوقت نفسه، ستقوم أجهزةالاستخبارات" برصد أي نشاط مشبوه في المجال الجوي وتقديم تقاريرمفصلة في حال وقوع أي حوادث". ومن جانبها،سيكون على قوات الدفاع الجوي" ضمان سلامة الأجواء فوق العراق وحماية المنشآت الحيويةعلى أراضيه. في غضون ذلك ناقش رئيس الوزراء محمد السوداني في محادثة هاتفية مع الرئيس فلاديمير بوتين بتاريخ 12 تشرين الثاني من بين قضايا أخرى قضايا الشرق الأوسط في ظل التصعيدغيرالمسبوق للتوترات في المنطقة.وشددعلى أنه يتعين على القوى العظمى بذل المزيد من الجهودلإنهاءالحرب ومنع توسعها بشكل أكبر. وليس من المستبعد أن يكون السيد السوداني قد تطرق في المحادثة مع بوتين إلى التهديد الإسرائيلي بالعدوان المحتمل على البلاد، لاسيما وان روسيا عضو في مجلس الأمن الدولي، ولها علاقات منفتحة مع تل أبيب.
إن المفارقة اللافتة للنظر إن ثمة قوتان تتجاذبان على الساحة العراقية، في التعامل مع العدوان المحتمل وتختلف في طرائق الرد عليه والتعامل معه. تتمثل الأولى بالدولة الشرعية التي تحظى باعتراف دولي وتقودها حكومة تمخضت عن انتخابات عامة، والقوة الثانية هي تشكيلات مسلحة يطلق عليها المليشيات التي تتحرك، مهما كانت أهدافها نبيلة، ووطنية/ دينية مخلصة، وفق أجندة لم تتبناها الحكومة العراقية وتقاطع مع استراتيجيتها.
إن الرد على العدوان الإسرائيلي، وأي عدوان آخر يستدعي القوى السياسية كافة مراجعة المواقف بعمق وبروح من المسؤولية الوطنية، وتبنى سياسية جديدة داخلية تسعى إلى تمتين الوحدة الوطنية القائمة على الانتماء الوطني والاستناد الى القانون الذي يحدد طبيعة العلاقات بين الدولة والمكونات السياسية والمدنية الناشطة في البلاد. وهذا يعني أن الممثل الشرعي والوحيد للبلاد الذي لا بديل هو مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، كل حسب اختصاصه وتحركه ضمن القانون، وينبغي على كافة المكونات الأخرى الالتفاف على ذلك المركز وعدم التحرك بانفلات خارجه، ووفق أجندة مهما كانت طبيعتها. إن الخروج عن ذلك يعرض المساءلة القانونية الحاسمة.
إن التهديد الإسرائيلي يطرح بقوة مسألة بناء قوات مسلحة عصرية فاعلة بميسورها الرد على التحديدات أي كان مصدرها، وإيلاء اهتمام جدي لنشر على عموم البلاد نظام دفاع جويحيوي، وغلق أجواء العراق المفتوحة(على مصراعيها) الآن، للتصدي لكل من تسول نفسه استباحة أمن البلاد جوا. يا للأسف لقد أهدرت وسرقت أموال البلاد وتبددت، ولكن لم يجر توظيفها لبناء أنظمة دفاعية وقوات مسلحة على أسس عصرية.
إن كسب السلطات ثقة الشعب العراقي بكافة مكوناته، وجعلته يلتف حول القيادة السياسية للبلاد، يعتبر احدى الأسس الرئيسية لضمان أمن البلاد. وهذا بدوره يتطلب بناء دولة المواطنة ونشر العدالة والاهتمام بالمواطن واحترام حقوقه، وبالتالي تمتين الوحدة الوطنية، وتهيئة الفرص لمشاركة كافة القوى السياسية النافذة، حتى التي وجدت نفسها خارج المؤسسة الحاكمة في صنع القرار السياسي، والكف عن سياسة التهميش والاستئثار بالسلطة وعدم الاستماع الى موقف الرأي العام وممثليه.