أحمد القاسمي
عندما نسمع بمصطلح الاندماج يخطر بأذهاننا دمج الأجانب المقيمين في بلد ما. فاستخدام هذا المصطلح بات شائعا منذ بضعة عقود في الغرب ويُستخدَم غالبا عند الحديث عن جهود الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني في البلدان الغربية لتمكين المهاجرين أو المنتمين بالأصل لبلدان أخرى في مجالات العمل والحياة، وخاصّة فيما يتعلّق بتعلّم لغة البلد والتعرّف على القيم الجديدة عليهم وتوليد الإحساس لديهم بالانتماء للبلد الجديد.
لكن الحقيقة هي أن فكرة الاندماج لا تقتصر على الأجانب في بلد ما، بل أن كلّ بلد بحاجة لدمج مواطنيه مع بعضهم البعض. عدم سماعنا للحديث عن الاندماج للمواطنين من غير ذوي الأصول المهاجرة في بلد غربي ما يعني، نظريا على الأقل، إن الاندماج متحقّق، كما أنّه لا يزال يتحقّق بوسائل عديدة ليس بالضرورة أن تحمل اسم الاندماج.
فيما يتعلق بما نُشِر حول الاندماج في العراق فإن كتابا للأكاديمي العراقي الراحل عباس الكليدار نشره في عقد السبعينيات مع مؤلفين آخرين يحمل هذا الاسم صراحة، فهو بعنوان „الاندماج في العراق الحديث". كما تحدّث المؤرّخ حنّا بطاطو بإيجاز ولكن بحزم عن ضرورة تحقيق الاندماج في العراق في كتابه المرجعي عن العراق. بلغت أهمية هذا الموضوع بالنسبة لبطاطو لدرجة أنه اعتبر في مقال في عقد الثمانينيات أنّ الحرب العراقية الإيرانية، رغم كل مآسيها، والكلام لبطاطو، يمكنها أن تعزّز وحدة العراقيين، ولو عن طريق الألم المشترك الذي تسبّبه لهم.
كما نعرف فإن البلد، أي بلد، ليس مجرّد كيان سياسي واقتصادي، بل أنّه أيضا كيان ثقافي وأخلاقي، ويجب أن يكون متمايزا عن أي بلد آخر، قريب أو بعيد عنه. وتحقيق الاندماج ينبغي له إظهار شخصية ذلك البلد ويبرّر كونه بلدا مستقلا، وليس ملحقا ببلد آخر مثلا أو أن استقلاله مصطنع. هذه جوانب أساسية في بنية ما يُعرَف بـ „الدولة الوطنية" Nation State، وهذه الأخيرة كيان حديث،ولكنها الكيان السياسي الأقوى والأكثر تماسكا من أي كيانات أخرى، سواء كانت إثنية أو دينية أو أي مرجعية جامعة أخرى. من بين صفات المجتمعات القديمة، بحسب أساسيات علم الاجتماع، كونها قليلة الحركة والانتقال المكاني، وتعيش في ظل علاقات مفروضة عليها غالبا،وأنها أيضا تميل للانعزالية وتنظر بشكّ للفئات المجتمعية المختلفة عنها. وفي الحقيقة، كانت هذه هي الحال في العراق العثماني وحتى احتلال بريطانيا للعراق، ويشمل ذلك العاصمة بغداد، مهما سمعنا خلاف ذلك من كلام عاطفي.
لقد أدركت الدولة الوطنية أن نجاحها لن يتم دون تحقيق اندماج بين مواطنيها وخلق هوية جامعة لهم.لكن الهوية الجامعة في بلد ما لا تعني القضاء على الهويات الفردية أو الانتماءات المحلية لمواطني تلك الدولة، بل تعني أساسا خلق هوية قائمة على المواطنة والانتماء إلى بلد محدد، بما يتجاوز ضيق وانغلاق الهويات المحلية أو الثقافات الفرعية، أو امتداداتها البعيدة التي تجعلها غير واقعية كمشروع سياسي ناجح، مثل إيديولوجيات الوطن العربي أو الوطن الكردي أو الأمّة الإسلامية. وضوحمعالم الهوية الجامعة في الدولة الوطنية تجعل مواطني تلك الدولة مختلفين عن البلدان المجاورة لهم، حتّى في حال وجود تشابه في العقائدأو الثقافة أو الإثنية، فالمواطنون هنا مرتبطون بعقد اجتماعي يلتزمون به للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم داخل إطار دستوري وقانوني محدّد جغرافيا ومُعتَرَف به دوليا. وبالانسجام مع هذا المنطق، فإن الدولة ملك لهم وهم سيكونون الأكثر حرصا عليها، باعتبارها تجسيدا لإرادتهم المشتركة.
لقد ولِدَت الدولة الوطنية مأزومة ومُهدَّدَة وما زالت كذلك.لكن ليس شرطا أن تكون معالم هوية دولة وطنية ما قائمة فعلا على حقائق وأدلّة وتاريخ دقيق أو قابل للإثبات، فالدولة الوطنية، كما ذكر الأكاديمي بنديكت أندرسون في كتابه عنها، كيان مصطنع قليلا أو كثيرا. إنها بحاجة لتبرير نفسها دائما وخلق وتجديد الروح الوطنية لدى مواطنيها. فهي ليست شيئا "طبيعيا" مُعطى مسبقا، بل أن تاريخ نشوئها محدّد، وهي أيضا قائمة على أساس نفعي إلى حد ليس بقليل.
لم تفلح الدولة الوطنية تماما حتى الآن في مجابهة الانتماءات الأقدم منها، أو تمكّنت من اكتساب"القداسات" القديمة، الحقيقية أو المزعومة، القائمة على الإثنيةالواحدة أو الدين أو المذهب.
اتّضح بعد الانقلاب الذي أطاح بالملكية أن النظام الملكي العراقي، رغم كل مساوئه، نجح في خلق هوية عراقية قوية تماهى العراقيون معها، إضافة لنيلهاالاعتراف الدولي بها. فلم تجرؤ أي دولة، وخاصة تلك الدول التي كانت تطمع بكلّ أو بعض أراضي العراق، أي إيران والسعودية وتركيا، على إعادة إحياء مطالبها القديمة. لكن خلق كيان الدولة ليس كافيا طبعا، فبعض مشاكل الاندماج في العراق مستمرة منذ بدايات تأسيس الدولة العراقية وحتى يومنا هذا. سأتحدث الآن عن بعض عوامل على الاندماج في العراق، أو عن غيابها، من خلال إيراد أمثلة حول شروط الاندماج المادية، والأخرى غير المادية.
الشروط المادية لتحقيق اندماج أفضل بين العراقيين لم تتحقّق، إلا في حدّها الأدنى. يكفي أن نذكر أمثلة عن غياب طرق نقل سريعة بين كل المحافظات أو سكك حديدية تربط كل أجزاء العراق أو حافلات نقل يُعتمَد عليها، كأن تكون شركة تابعة للدولة. شبكة الطرق المتردّية أدّت، بلا شكّ، لضعف التواصل بين المحافظات العراقية، وبالتالي عرقلت تحقّق اندماج أفضل.
مؤسسة البريد في العراق أيضا ظلّت متلكئة طوال تاريخ الدولة العراقية،وكان تلكؤها تعبيرا عن ضعف النظام البيروقراطي للدولة العراقية ولكن أيضا أحد أسباب ذلك الضعف.
فأي نظام بيروقراطي رصين يجب أن تكون فيه دائرة بريد موثوقة تتيح للدولة التواصل مع مواطنيها، كما تتيح لهم فرصة التواصل فيما بينهم، وكذلك، وكما يحصل في بلدان كثيرة حول العالم إنجاز المعاملات الرسمية عبر البريد، أي أحد الأشكال المهمة لتواصل المواطنين مع دولتهم. الحديث عن البريد يستدعي مشكلة أخرى هي أن أغلب شوارع العراق بدون أسماء، ناهيكم عن عدم وجود أرقام للمنازل.
في ظل غياب شروط مادية كهذا، لا غرابة في قّلة التواصل بين العراقيين. لم يحدث، ولا يحدث حاليا، إلا قليلا أن يسافر الناس في العراق لزيارة مدن عراقية أخرى لأجل السياحة أو للتعرّف عليها ومشاهدة معالمها وربما قضاء بضعة أيام فيها. صحيح أن ذلك تغيّر قليلا في الأعوام الأخيرة لكنه ما زال ضئيلا ولا يشمل إلا محافظات محدودة جدّا. أمّا اتخاذ قرار بالانتقال والسكن في مدينة أخرى فهو نادر أيضا، ولا يحدث إلا لضرورات ملّحة. من الواضح أن تشجيع المواطنين العراقيينعلى السكن الدائم في مناطق ليست مناطق سكناهم الأصلية، مثلا للعمل في مشاريع كبيرة، أو الذهاب في رحلات سياحية يعزّز الاندماج بين العراقيين، علاوة على فوائدهالاقتصادية.
يمكنني الاستمرار في إيراد أمثلة أخرى، لكن المجال لا يتّسع لها هنا، لذا سأنتقل للحديث عن أمثلة عن الجوانب غير المادية للاندماج. يعتبر بنديكت أندرسن أن الصُحُف في بلد ما تخلق هوية مشتركة، لأنّ الشؤون الحياتية التي تتناولها يقرأها الناس في ذلك البلد ويمكنهم بالتالي أن التعرّف بصورة أفضل على بلدهم والحياة فيه، كما تخلق لديهم اهتمامات مشتركة في مجالات مختلفة، وتعزّز انتماءهم المشترك لبلدهم. وبما أن عصر الصُحُف في طريقه للانقراض، كما يبدو، يجب أن تُناط هذه المسؤولية بالغة الأهمية في تحقيق الاندماج بالتلفزيون الرسمي. من المعيب، برأيي، أن تكون النتاجات الفنية الأجنبية، وأعني بها غير العراقية، أكثر من النتاجات العراقية في محطات التلفزة العراقية، وذلك في بلد لا زال بحاجة ماسّة لخلق هويته الخاصة. إن تركيز التلفزيون العراقي الرسمي على الشأن السياسي اليومي و"العادي" جدّا، وضعف نوعية المواضيع الثقافية والتاريخية عن العراق وأهله أو تناولها بارتجال مبتدئين لا يمكنها تحويل التلفزيون العراقي الرسمي لعامل دمج ناجعللعراقيين. لذا يجب إسناد مسؤولية الإعلام العراقي لمتخصصين أكاديميين من اختصاصات مختلفة، وأن تكون في التلفزيون الرسمي العراقي أقسام مختلفة هدفها، إضافة لدورها الإعلامي المحايد والتنويري، العمل على تعزيز الاندماج في العراق.
أما المناهج المدرسية فهي من بين أهمّ عوامل تحقيق الاندماج، وخاصّة مواد الجغرافيا والتاريخ والتربية الوطنية، وهذه الأخيرة سمعتها سيّئة، بسبب تلك المادة المدرسية التي كانت موجودة في حقبة البعث المظلمة. لكن العراق بحاجة لمادة مدرسية، وربما جامعية أيضا، باسم التربية الوطنية. نحتاج كعراقيين أن نتعرّف على بعضنا البعض أكثر، لأنّ الجهل يولّد الشكوكوالتوجّس فعلا. أتمنى أن أرى شوارع العراق وقد حصلت على أسماء أخيرا، وأتمنى أيضا أن تعمد كل محافظة على تسمية بعض شوارعها على أسماء مدن عراقية أخرى أو أسماء مبدعين من محافظات العراق كافّة.
كيلا تكون خاتمة مقالي هذا قاتمة، أقول إن الدوري العراقي لكرة القدم خلق بلا شك تعارفا أقوى بين العراقيين ودوره مهم في تحقيق اندماج أفضل، رغم كل أنواع المنافسات غير المنصفة والتعصب الرياضي المتطرف.فمثلاكان للدوري العراقي بعض الفضل في التعريف بمدينتي، القاسم، فلقد حصل معي عندما كنت طالبا في جامعة بغداد في عقد التسعينيات أن سألني زميل من الحويجة من أي مدينة أنا، وعندما أخبرته أن اسمها القاسم، أجابني أنه لم يسمع بها قط.