ستار كاووش
خرجتُ من الجانب الخلفي لمتحف بلفدير، صاعداً درجات بعض السلالم العريضة التي توسدت الحديقة الواسعة المليئة بتماثيل أسطورية سقطت عليها أشعة الشمس وحوَّلَتْ المشهد الى مكان آسرٍ يلفه الغموض. ها أنا إذن أقفُ محاذياً للقصر الذي يُعتبر من أشهر أبنية العالم التي تعكس الطراز الباروكي، والذي تم بناءه في القرن الثامن عشر بطلب من الأمير أوجين سافوي، وبعد وفاته حولتْ الملكة ماريا تيريزا هذا القصر كمكان عرض خاص بالمجموعة الفنية التابعة للامبراطورية النمساوية، ليتحول فيما بعد الى أحد أهم متاحف العالم، والأكثر زيارة في فيينا، لأنه يضم أعظم ما قدمه فناني النمسا إضافة الى الكثير من مشاهير فناني أوروبا.
عبرت عتبة البوابة الكبيرة ولا يشغلني في الحقيقة غير لوحة كليمت الشهيرة (القبلة) التي تجذب الناس من كل العالم للوقوف أمام سحرها الذي إختصر فن النمسا، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد شغلت لوحات كليمت جانباً كبيراً من هذا المتحف، إضافة الى لوحات العبقري الآخر إيغون شيله، وبقية الرسامين الذين تركوا تأثيرهم البالغ على كل الحركات والأساليب الفنية. إبتدأ المتحف كالعادة بالأعمال الكلاسيكية، لينتقل تدريجياً نحو أعمال الحداثة. وأنا في غمرة المشاهدة، إلتمعت أمامي فجأة لوحة الفنان شيله (العناق) والتي يظهر فيها رجل وامرأة يتعانقان في الفراش، وكعادة أعمال هذا الفنان فقد رسمهما عاريين وكإنهما ينصهران ويتداخلان مع بعضهما، ليتحولا الى شعلة، وقد زاد من هذا التعبير حافات الملاءة البيضاء التي إحتوتهما بعد أن تحولت طياتها الى ما يشبه ألسِنَة لهب. هكذا مضيتُ بين مجموعة من أعمال هذا الفنان الذي توفي في سن الثامنة والعشرين بسبب الانفلونزا الاسبانية، تاركاً كنوزاً مهمة من اللوحات التي تأثر بها الكثيرون حول العالم. لم تمض بضع دقائق حتى وصلت لصالة العبقري غوستاف كليمت ومجموعة من أعماله غير المكتملة التي رحلَ وتركها وراءه بعد أن داهمته الإنفلونزا الاسبانية هو الآخر ورحل سنة 1918، وهذا يشير الى أن هذا الفنان كان ينشغل في رسم مجموعة من اللوحات في الوقت ذاته، لأنه كان يضطر الى ترك بعضها كي تجف الألوان ثم يعود للعمل عليها من جديد. وهنا يمكننا رؤية كيف يبدأ الفنان بأعماله منذ التخطيط الأول واللمسات المقترحة التي تُولَد في لحظات البداية. كل لمسة من فرشاة كليمت هي درس في الرسم وكل بقعة لون هي كنز من كنوز الفن. هنا نرى كيف يرسم هذا الفنان لوحاته الساحرة، وكيفَ عرف سر الخلود وأمسك روح الرسم بيديه.
مضيتُ نحو صالة جانبية عُرضت مجموعة كبيرة من المناظر الطبيعية التي رسمها كليمت بحجوم مربعة، حيث تظهر البيوت التي تشبعتْ بالألوان، والأشجار التي انغمست بالصباغة، تكوينات غير معتادة وضربات فرشاة قصيرة تعيدنا الى تأثيرات فينسينت فان خوخ والتنقيطية. في هذه اللوحات نقلَ كليمت المنظر الطبيعي الى مستوى آخر ومنحه حياة ستمضي مع الزمن حتى يومنا هذا. التعبيري جولونسكي أخذ مكانه هنا ايضاً بلوحاته ذات الألوان الصريحة، كذلك فان خوخ ولمساته المتكسرة الحادة، يُضاف الى ذلك بعض أعمال فرديناند هودلر الرمزية، ولوحات مونيه الانطباعية المشرقة. وبين هذا وذاك برزتْ لوحة دافيد التي رسم فيها نابليون يمتطي صهوة جواده وهو يشير بإصبعه نحو جبال الألب، وهذه اللوحة تعتبر نموذاً رائعاً لديناميكية الكلاسيكية الجديدة التي كان دافيد أهم ممثليها.
تنقلت بين الصالات العديدة لهذا المتحف الرائع، وعند مدخل إحدى الصالات رأيت مجاميع من الناس تتزاحم في الداخل، لا مكان لرؤية شيء سوى تداخل وجوه الزائرين وحركتهم، حيث تراصفوا مع بعضهم لرؤية شيئاً يبدو شديد الأهمية، وعند إقترابي أكثر، تبَيَّنَ أن هذا الشيء المهم لم يكن سوى لوحة (القبلة) لغوستاف كليمت، والتي حصلت على مكان خاص وشرفي في هذا المتحف لأنها أهم وأشهر قطعة فنية أنتجتها النمسا على مر تاريخها، وواحدة من أعظم لوحات العالم التي أثرت على الكثيرين، وكان لها حضور بارز في الكتب والطباعة والأفلام والقصص والمسرح والأزياء، والأهم هو رسوخها حتى في الذاكرة الشعبية للناس. انها لوحة مُلهمة بكل معنى الكلمة، حيث يقول الحب كلمته، وتُفصح تقنية الرسم عن الكنز الذي إستقرَّ على هذه القماشة الواسعة. هنا عليك الوقوف بهيبة وإجلال في حضرة لوحة صنعت تاريخاً للرسم ومنحت كليمت صولجان العبقرية وأجنحة التفوق. قرب هذه اللوحة تجد نفسك أمام الروح العالية للرسم، وقُبالة المعنى الحقيقي في تحويل الأصباغ الى تحفة ستبقى تجذب عشاق الفن ومحبيه الى الأبد. وفوق كل هذا تمنح الطاقة لكل رسام يحب عمله. هكذا يتحول العاشقان هنا الى مصباح يُضيء لنا مستقبل الرسم، ويُعيدنا في ذات الوقت الى تلك الأيام التي كان فيها الرسامون الحقيقيون بمثابة سحرة. لكن كيف يمكنني الإقتراب من هذه التحفة وكل هؤلاء الناس يحيطونها، بل وتعدى الأمر الى أن الكثير من العشاق إنشغلوا بتصوير أنفسهم مع من يحبون أمامهما، وكأنها الشاهد الأبدي على المحبة. الزحام كبير أمام اللوحة، وأنا بإنتظار اللحظة المناسبة التي أتقدم اليها مقترباً وكأني أريد القول، أنتِ سبب محبتي للفن، ورسامكِ العظيم هو الذي فتح لي الباب ودعاني للدخول الى عالم الرسم.
لحظات لا تُنسى وقفتها أمام لوحة، كانت وستبقى في الذاكرة. خرجت بعدها من المتحف وكأني لا أريد رؤية أي شيء آخر ربما سيعكر صفاء (القبلة) التي شاهدتها قبل قليل، لذا دلفتُ جانباً نحو شارع كانتي، وهناك لِذتُ بمقهى صغيرة وتسمرتُ على إحدى طاولاتها، غائباً وسط الإضاءة الخافتة، فيما روحي ما زالت تتلألأ وسط الألون الذهبية للوحة القبلة.