TOP

جريدة المدى > عام > سامانثا هارفي, بلاغة الجماد

سامانثا هارفي, بلاغة الجماد

نشر في: 15 ديسمبر, 2024: 12:28 ص

عبداللطيف الحرز
سبق أن تم ترشيح روايتها السابقة "رياح غريبة" للقائمة الطويلة لجائزة دبلن (تبلغ 100 ألف يورو), لكنها الآن أمسكت فعلياً بجائزة البوكر (بقيمة 50 ألف جنيه أسترليني) عن روايتها الجديدة (مداري) حيث تتحدث البريطانية سامانثا هارفي عن ستة رواد فضاء يعملون على محطة الفضاء الدولية. تتحدث الروائية عن "عالم جريح" فقد وعيه بقيمة الأشياء في ذاته و في واقعه الخارجي.
الإنسان المعاصر يهدر كرامة الأرض لكونه عاجز عن تلمس الجوهر الثمين في نفسه. و بالتالي يتطلب تلبّد المشاعر في إنسان ما بعد الحداثة أن يرى الأمور في مرآة أكبر ليدرك محدودية نظرته القاصرة عن الأشياء. هنا تطرح هارفي فكرة كون النظر إلى كوكب الأرض عبر الفضاء يشبه إلى حدٍ بعيد طريقة الطفل وهو يُحدّق في المرآة لأول مرة, فهو إذ يعي الخارج, فهو يدرك أن هذا الخارج عبارة عن شخصه وذاته هو. و بالتالي فطريقتنا في التعامل مع كوكب الأرض, طريقة تعامل الإنسان مع الأمور العامة لوطنه الأكبر حيث البشرية, يعكس في الواقع طريقة تعاملنا مع ذواتنا, حيث النفس هي وطننا الأول. تأتي هنا إشادة حكّام لجنة الجائزة بهذه الرواية القصيرة (أقل من 200 صفحة) بكونها تبعث على إعادة احترام الإنسان لنفسه, وكونها سردية بمقام رسالة حب عميقة لهذا الكوكب الذي يتحمّل أعباء إنسانيتنا المُشتركة. علينا أنا لا نغفل هنا أن القائمة القصيرة قد تكونت من خمسة أسماء نساء من أصل ست. فكأن جانب الأمومة البشرية في الأديبات هو الأشد حساسية تجاه معاناة أمنا الأولى التي هي الطبيعة و الأرض. لقد قررت سامانثا هارفي ترك (الغابة) برمتها, لأمبرتو إيكو وشلته, واختيار طرائق سردية تتسامى فوق الأنانيات الوطنية و القومية و الآيديولوجية, تلكم "الحدود" التي تقصر ماهياتنا في تشكلات مُحددة و حدود مُعينة, جعلت الأرض حريق متصل من أوكرانيا وحتى فلسطين. و اضطراب مرايا هويات مشوهة شواشية الفهم لذاتها و للآخرين. ودليل ذلك أن الميديا بمقدار ما تتسع تضيق هوية الإنسان مع نفسه و يُحمّل هذا التشوش كوكب الأرض, حطب الأخفاقات المعنوية و السياسية. حتى لكأن الأفتتان بالفضاء و علوم الفضاء و أفلام سينما الفضاء و الخيال العالمي, وأدب الرعب والفنتازيا والهوس بخرافات غيبية, نوع من تكوين البديل الذهني يحاول تلمّس جماليات ما عاد لها وجود في هذا العالِم. في هذه السردية الدافئة, يراقب فريق من رواد الفضاء (أمريكي, ياباني, بريطاني, إيطالي, روسي) المناظر الطبيعية للكوكب, حيث تقترب محطة الفضاء من كوكبنا. وفي كل مرة نسمع صوت هوية محدودة لدولة ما يتحدث عنها أحد العاملين. الحياة اليومية داخل محطة الفضاء تُحيي في النفس دفيء مشاعر المنزل, حيث ما عاد الفتى يألف أي منزلٍ في الأرض, وحينما أُهدر المنزل الأول, باتت الأرض بل المجرات كافة نوع من المنفى. أن كوكب الأرض بسعته مرآة تعكس الأوبئة و الحروب, و التصحّر, ونفايات التصنيع, و تقسيمات الفقر, واختراع الأمراض, وهدر الثروات الحيوانية و النباتية.. الخ لم تعد الحياة توعظنا نحن أبناء عصر التكنولوجيا وذكاء الآلات المعدنية, فها نحن بين يدي بلاغة الجماد, فحتى الحجر بات يشتكي من وحشية الإنسان. "الإنسان" الذي بات معنى حائر في نفسه, و تائه في مجرات المجهولات البعيدة. فبالرغم من سعة اختلاف الثقافات وتنوع مناهج الفهم, واتساع عدد نظريات العلوم, لكن لأول مرة تتفق البشرية وهي تقف أمام طفولتها الأولى ومنطلق علم الحواس, حيث الأرض, بأن الإنسان هو سجن الكون الأبدي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

أندريا بوتشيلي.. الذي أعاد الاعتبار للموسيقى الكلاسيكية

جائزة نوبل وجنون العظمة

الوهم كإلهام أدبي

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيراً> "عَلِي لَبِيبْ جَبرْ"

موسيقى الاحد: حصاد العام 2024

مقالات ذات صلة

من مسالك الإبهار والمخاتلة السردية
عام

من مسالك الإبهار والمخاتلة السردية

د. نادية هناويلم يعن النقد المعاصر بالتأسيس اللاواقعي الذي دشَّنه السرد القديم، بل عدّه طفوليا على أساس أن العنصر غير الواقعي بدائي، انتهى زمانه وعفت عليه موضوعات السرد الواقعية؛ فالناقد شكري عياد مثلا يرى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram