الرئيسية > أعمدة واراء > قيادة التنوير من تحت التراب

قيادة التنوير من تحت التراب

نشر في: 16 ديسمبر, 2024: 12:01 ص

أحمد حميد

لم أرَ باحثاً انتقدَ الدكتور علي الوردي، بدوافع علمية محضّة، الغالبية تهاجم عالم الاجتماع العراقيّ، بدافع الثأر منهُ لصالح العواطف الدينية، والمؤسّسة التي تغذي هذا الاتجاه. حتى السيد مرتضى العسكري (فقيه شيعي، وأحد مؤسّسي حزب الدعوة الإسلامية)، حينما انتقدَ كتابات الوردي، انتقدهُ وفقَ متبنيات دفاعية عن المؤسّسة التي كان ينتمي لها.
لم يكن الدكتور علي الوردي، يخوض معترك المراهقة الثقافية والأكاديمية في أواسط القرن العشرين؛ لكي يخط لنفسهِ مساراً مشاكساً للمؤسسات التقليدية الراعية لثقافة واعتقادات المجتمع، بل كان يمتاز بنشأةٍ أكاديمية مختلفة عن أقرانهِ الأكاديميين، لذا، كانت مشاكساتهُ علمية محضة، تنطلقُ من السؤال المجرد، مروراً بمرحلة التشكيك، لعلهُ يصل إلى إجابةٍ قد تتفق أو لا تتفق مع ذوي النزعات اليقينية، والقوالب الفكرية الثابتة. كان الدكتور الوردي من أصحاب الهموم المعرفية التي ساهمتْ في تأسيس مؤسّسات التعليم المدني المبكر في الحواضر الاجتماعية المغلقة، لقد كان أحد أعضاء الجمعية المؤسسة لمشروع جامعة الكوفة سنة (1966م)، رفقة المهندس محمد مكية، وآخرين من الباحثين عن مشروع تنموي له صلة بإحياء مناطق وسط وجنوب العراق، حضارياً. وهذا ما دفعهُ وزملاءه التنويريين إلى فتحِ حوارٍ مع المؤسسة الدينية الحاكمة في النجف، بدءاً من المرجع الشيعي الأعلى في حينها السيد محسن الحكيم، وصولاً إلى خليفتهِ المجتهد الأكبر أية الله أبي القاسم الخوئي، وقد خاض الأخير حوارات معمقة مع الدكتور علي الوردي بشأن ما يكتبهُ في علم الاجتماع (1). وهي إشارة إلى أنهُ محط احترام وتقدير المرجعيات الروحية، وإن اختلفتْ معهُ في الرأيِّ والتشخيص.
الدكتور علي الوردي، ليس مقدساً، وأفكارهُ يجب أن تخضع للمناقشةِ والنقدِ والتمحيص، لكن بأدوات نقدية خالية من الشخصانية، والثأرية، وسائر أمراض الحسد المعرفي. شخصياً (على الرغم من فقري الثقافي)، أختلفُ مع صاحب كتاب "وعّاظ السلاطين"، في بعض الطروحات، ومنها تصنيفهُ شخصية عمّار بن ياسر، على أنها شخصية عبدالله بن سبأ، على الرغم من أنهُ طرحَ مقاربة شبه منطقية، ومكونة من ستِ نقاطٍ فيها شيء من التفصيلِ والمقارنة بين الشخصيتين الجدليتين. مشكلة المنتقدين للوردي؛ تكمنُ بعدمِ فهمهم للمنهج الذي اعتمدهُ في محاكمة التراث، الرجل يذهب إلى اعتماد منهجية "الفهم والتأويل"، في تحليلهِ لحركة التاريخ، وهذا ما يشكلُ صدمةً تزعزعُ يقينيات المتأثرينَ بالألغازِ و الأسطرة.
بالمحصلة؛ علماء النفس، والاجتماع، والفلسفة، واللغة، والأدب، هم أطباءُ المجتمع، وعميد السوسيولوجيا العراقية، شخّصَ مبكراً أمراض مجتمعنا، وما يعانيهِ من جراح وتسوُّسات جذرية عميقة، وهكذا تشخيصات أضرت، ومازالت تضرُّ بمصالحِ مؤسساتٍ تتغذى على هذهِ العِلل. لذا، الانتقام الإيديولوجي يتجددُ كلَّ يوم من المثقف المتمرد على مختلف الأنساق الايديولوجية؛ خشية أن يتأثرَ شبابُ كلَّ جيلٍ صاعد بمؤلفاتهِ التي تغزو المكتبات، لأن راية التنوير مازالت بيدهِ و إن كان تحت التراب.

(1) محمد مكية، خواطر السنين، تحرير رشيد الخيون، دار الساقي، بيروت، ط 1، 2005، ص 220.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Shaymaa

    منذ 4 أسابيع

    حبيت المقاله 🌹

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جنرالات الطائفية

العمود الثامن: هلوسات مرشح خسران!!

العمود الثامن: رجاء اقرأوا التدوينة

الصراع على البحر الأحمر من بوابة اليمن "السعيد" 

ترامب يؤدي اليمين الدستورية وهو مدان: تداعيات غير مسبوقة على الديمقراطية الأمريكية

العمود الثامن: لماذا لا نثق بهم؟

 علي حسين عندما سُئلت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل عن اهدافها من الترشيح لمنصب المستشار ، قالت جملة واحدة : "يمكنكم أن تثقوا بي" كان ذلك عام 2004، وكان عمرها آنذاك 48 عاماً، لتُنتخب...
علي حسين

قناديل: رئيسٌ لم يكرهْهُ أحد

 لطفية الدليمي توفّي (جيمي كارتر) بعد أن اجتاز عتبة القرن الكامل بشهريْن؛ وبهذا يكون أطولَ الرؤساء الأمريكيين عمراً. ليس في هذا العمر الطويل إمتيازٌ لرئيس أو غير رئيس من البشر. ربّما يكون العمر...
لطفية الدليمي

قناطر: أنت ثملٌ وأنا نصف عاشقة

طالب عبد العزيز الأسفلتُ قديمٌ، والمرأةُ تمسحُ عروقَ الماء، تتصببُ في الزجاج شاقوليةً ومائلةً، لكنَّ المقهى قريب. هي في المقعد الخلفي الآن، تنتظرُ ما ينتظره العَوامُ السابلةُ، ساعةَ ذهب سائقُ الأجرة يقضي حاجةً. صاحبُ...
طالب عبد العزيز

العراق.. حجر الدومينو الأخير في محور إيران

إياد العنبر لطالما سمعنا عن وصف السياسي الإيراني بأنه صانع سجاد، وهي مقاربة للحرفية العالية في الصنعة والدقة في نسج الخيوط والصبر الطويل حتى تخرج السجادة مثل لوحة فنية. وهذا التوصيف رسم في مُخيلتنا...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram