TOP

جريدة المدى > عام > علي جواد الطاهر.. مشيّد ركائز النقد الأدبي في العراق

علي جواد الطاهر.. مشيّد ركائز النقد الأدبي في العراق

نشر في: 18 ديسمبر, 2024: 12:02 ص

أحمد الناجي
في مدينة الحلة، وببيت يقع بزقاق (عكد المفتي) المتفرع من شارع الإمام علي.. شارع (المنتِجَبْ) سابقاً، ولد ونشأ الدكتور علي جواد الطاهر (1919-1996) شيخ النقّاد العراقيين، وأستاذ النقد الأدبي، أبتدأ مسار تعليمه على المستوى الشخصي في كُتّاب الشيخ علي الأحمر، إذ قرأ القرآن الكريم وختمه، وتعلم القراءة والكتابة، ومن ثم دخل المدرسة سنة 1929 الى الصف الثاني مباشرة، وأنهى مرحلة الابتدائية سنة 1933-1934، فدخل المتوسطة ولما أنهى دراستها بنجاح اختار الفرع العلمي في المرحلة الاعدادية، وأكملها متخرجاً سنة الدراسة 1939-1940.
اهتم في تلك الآونة بالشعر، وتكرس لديه شيئاً فشيئاً النزوع الأدبي، إذ لم تقتصر وجهته في القراءة على كتبه المدرسية، بل تعدت الى متابعة مضامين كل ما يقع تحت بصره وبين يديه من كتب وجرائد ومجلات، وأخذه شغف القراءة الى الاستعانة بالمكتبة المركزية العامة في مدينة الحلة، والانصراف الى مطالعة ما يهواه العقل من عنوانات وفيرة فيها، كما تنامت لديه رغبة اقتناء الكتب، فأصبح يحرص على متابعة ما يصل من اصدارات جديدة الى المكتبات الحلية.
سعى الى التعيين بعد حصوله على شهادة السادس الثانوي، حيث أنضم الى دورة اقامتها وزارة (التربية) المعارف آنذاك لمدة شهر لإعداد معلمين للتعليم الابتدائي، وجرى تعيينه معلماً في الناصرية في مدرسة قرية (العواشية) ضمن قضاء الشطرة. وبعد انقضاء سنة توجه الى بغداد، حاملاً في زوادته غذاء الروح والعقل، دخل سنة 1941 قسم اللغة العربية في دار المعلمين العالية ببغداد، وراح بكل جد واجتهاد يجتاز المراحل الدراسية الواحدة تلو الأخرى، حتى تخرج فيها بتفوق سنة 1945، عاد الى الحلة منتصف الأربعينيات بعد ان أكمل دراسته الجامعية، وتسنم عمله الوظيفي في شهر حزيران 1945، مدرساً لمادة اللغة العربية في متوسطة الحلة للبنات، التي لا تبعد عن بيته سوى مسيرة دقيقتين، وبقي فيها مدة حتى شهر شباط 1947، ومن المبادرات اللافتة لمدرس الأجيال يومذاك تشجيع الطالبات على الكتابة، عبر قيامه بإصدار مجلة مدرسية كان عنوانها (استفيقي). فكانت حدثاً ثقافياً مرموقاً في المدينة، وربما في البلاد بأجمعها. ومن ثم سافر الى مصر منظويا ضمن مرحلة دراسية تحضيرية في كلية الآداب جامعة فؤاد (القاهرة حالياً)، لغرض (التأهيل) أو بالأحرى معادلة شهادة الليسانس (البكالوريوس)، ومكث فيها مدة تراوحت بين شهر شباط 1947 حتى شهر حزيران 1948، ومنها غادر الى فرنسا ملتحقاً بجامعة السوربون في باريس، حيث حاز فيها على شهادة دكتوراه الدولة في الآداب سنة 1953. عاد الى العراق وعمل مطلع سنة 1954 أستاذاً مساعداً في بغداد، متنقلاً بين دار المعلمين العالية وكلية الآداب، حتى انقلاب 8 شباط 1963، إذ تعرض الى الفصل من الوظيفة بسبب أفكاره ومواقفه السياسية، فاضطر الى مغادرة العراق، واستقر في المملكة السعودية، حيث عمل أستاذاً مساعداً في كلية الآداب جامعة الرياض خلال الفترة بين سنتي (1963–1968)، ومن ثم عاد الى وظيفته في العراق، بعد صدور قرار يقضي بعودة المفصولين السياسيين، ورقي الى مرتبة أستاذ، وعمل في تلك الأثناء أستاذاً زائراً في جامعات خارج العراق، في كل من: الجزائر وقسطنطينية وصنعاء وقطر، ولكنه أحيل على التقاعد بصورة قسرية سنة 1980. وبعد مضي فترة زمنية ليست قصيرة، وتلبية لدعوة من جامعة الكوفة، عاد الى عمله التدريسي في كلية التربية للبنات مرحلة الدراسات العليا، ومن جامعة الكوفة تحول الى العمل في جامعة بغداد سنة 1992، وانتقل بعدها الى التدريس في كلية التربية جامعة المستنصرية سنة 1994 واستمر في تأدية دوره التربوي حتى غلبه المرض، واقعده في البيت.
ينظر المختصين في الوسط الأكاديمي الى الدكتور علي جواد الطاهر على أنه مشيّد ركائز النقد الأدبي في الميدان الاكاديمي، إذ تخرجت على يديه أجيال متعاقبة من النقاد المبدعين، قدم رعاية كبيرة للبعض منهم، خاصة ممن شاركهم في اصدار مؤلفات، فلم يضع الطاهر حدوداً فاصلة في الشأن الإبداعي بين الطالب والأستاذ. ومنها على سبيل الإشارة: ديوان الخريمي (بالاشتراك مع محمد جبار المعيبد). وديوان الجعفري.. صالح بن عبد الكريم.. ابن جعفر كاشف الغطاء 1908-1979، (بالاشتراك مع ثائر حسن جاسم). ونشر الشعر وتحقيقه في العراق حتى نهاية القرن السابع الهجري (بالاشتراك مع عباس هاني الجراخ). ولعل من أبرز طلابه ممن حرص على رعايته، هو الناقد عبد الجبار عباس (فتى النقد الأدبي)، فقد أهتم في متابعة أحوال هذا التلميذ (الناقد) الذي كان مجلة الآدب البيروتية تنشر مقالته أثناء فترة دراسته في الكلية، ورعاه رعاية خاصة لما انقطع عبد الجبار عن الدوام آنذاك، ورفض اكمال دراسته الجامعية، فسعى الطاهر الى الحلة وهو يحمل بين دواخله مشاعر الأبوة لهذا الناقد الناشئ، ونجح في نهاية المطاف بمسعاه في إعادة تلك الموهبة الأدبية الى حيث يجب أن تكون على مقاعد الدراسة. وقام بعد أن وافاه الأجل بإعداد كتابه المتضمن مقالات في نقد الشعر والنقد القصصي، واصداره بعنوان (الحبكة المنغمة)، بالاشتراك مع الدكتور عائد خصباك، سنة 1994.
لقد اقترن الأداء الأكاديمي لهذا الأستاذ الجامعي بمنجزه النقدي الوفير، فتوضح بأجلى بيان كونه مبدعاً من طراز بارع، مخلص للأدب حقاً وغير مكترث بالأضواء، تنوعت اشتغالاته وتعددت نتاجاته وتوزعت اهتماماته على حقول الأدب والنقد والتاريخ، وهو أول سكرتير لاتحاد الادباء في العراق 1959-1963، وكان شعلة وقّادة من النشاط، يحوز على حضور طاغي في المشهد الثقافي، متأت من جرأة في الطرح وغزارة في الانتاج، لاسيما الصحافة العراقية والعربية، امتاز بالصياغة البليغة والأسلوب الشيق واللغة الطرية وأهتم بالشكل والمضمون مما مكنه أن يرتفع بقدر المقالة الأدبية كثيراً، ناهيك عما أنجزته هذه القامة الأدبية من مؤلفات رائعة، أهلته الى نيل جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية بالدورة الأولى 1988-1989 في حقل الدراسات الإنسانية والمستقبلية.
ويتجلى الدرس البليغ فيما حققه الطاهر من مكانة مرموقة وتبجيل رفيع، حين يردها كلها الى مدينته الحلة، المكان الذي شهد تنشئته وتكوينه، فهو الذي يصرح مفاخراً: "أنا من موئل الجذور". وأردف كلماته تلك بمشاعر الوفاء، قائلاً: "الحلة تُغني أبناءها عن الشعور بالنقص وعن الغرور، ومن هنا تسير حياتهم طبيعة دون شرخ أو شق، هكذا رأيت في الأقل، لقد انتقلت الى بغداد ومن بغداد الى القاهرة الى باريس.. فما شعرت بأني دون ما رأيت، وما أحسست بتغير كبير أو صغير، كأن الحلة الفيحاء تعدك لهذا نفسياً ومعنوياً، ولا عبرة بعد ذلك بالشوارع العريضة المبلطة المشجرة المزدهرة، وبالعمارات الأنيقة الشاهقة".
أصيب الدكتور علي جواد الطاهر بمرض عضال، وللأسف لم يتمكن من السفر بغية العلاج خارج العراق بسبب المضايقات التي مارسها النظام ضده، فرحل عن دنيانا بتاريخ 9 تشرين الأول 1996، تاركاً مئات المقالات في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية، بالإضافة الى مخطوطات عديدة نشر بعضها بعد وفاته، والبعض الآخر تنتظر من ينشرها. وبلغ منجزه التدويني قرابة (50) كتاباً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: حصاد العام 2024

من مسالك الإبهار والمخاتلة السردية

سامانثا هارفي, بلاغة الجماد

التشكيلي العراقي عبد العزيز الدهر..هل هي عودة لمعارض الألوان المائية المنحسرة؟

مسرحية الجدار.. حرية التمسرح/ التمرد الجمالي المعاصر

مقالات ذات صلة

إيجادُ المعنى في كونٍ لا معنى له
عام

إيجادُ المعنى في كونٍ لا معنى له

ميسرة كمال*ترجمة: لطفية الدليميغيابُ المعنى يخلعُ الألوان من حياتنا ويجعلها باهتة. كلّ شيء مع غياب المعنى يتضاءل إلى لون رمادي خافت، ويتحرّكُ بكيفية آلية وبلا مبالاة كاملة نحو وجهة تعبث بها أيادي القدر. تماماً...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram