المعروفي سفيان*
يجمع الباحثون على أن السينما ليست من مجرد وسيلة ترفيهية، بل هي قوة ناعمة تعكس تحولات المجتمعات وتُوثق لحظاتها الأكثر ألمًا وتعقيدًا. في زمن الحروب، تتحول الشاشة الكبرى إلى مرآة للصراع، تُسجل المآسي، وتروي قصص المعاناة، وتُعيد بناء الذاكرة الجماعية من خلال صور نابضة بالواقع. وبذلك، تصبح نافذة لاكتشاف الجانب الإنساني وسط ركام الدمار.
في الحالة السورية، لم تبقَ السينما بمعزل عن الحرب التي عصفت بالبلاد منذ عام 2011، بل أصبحت وسيلةً فعّالة لتوثيق الألم الإنساني وكشف تعقيدات الصراع. لقد تجاوزت السينما السورية تقديم مشاهد العنف والدمار لتتحول إلى جزء من المقاومة الثقافية والفكرية، مساهمةً في إبراز الأبعاد الإنسانية للأزمة السورية. ومن خلال العديد من الأفلام الوثائقية والدرامية، قُدّمت شهادات حية عن الحياة اليومية وسط النزاع، مما جعل السينما أداة مهمة في تشكيل الذاكرة الجماعية.
من أبرز الأفلام التي وثقت المأساة السورية فيلم "من أجل سما" (2019) للمخرجة وعد الخطيب. يقدم الفيلم شهادة شخصية عن الحياة في مدينة حلب أثناء الحصار، حيث تُرصد تجربة المخرجة كامرأة وصحفية تواجه التحديات اليومية وسط القصف والدمار. يسلط الفيلم الضوء على معاناة المدنيين، وخصوصًا النساء والأطفال، ويكشف عن الجوانب النفسية والإنسانية العميقة للصراع. وبهذا، تجاوز الفيلم توثيق الوقائع الميدانية ليصبح أحد أبرز الأعمال التي تعكس قسوة الحياة في ظل الحرب.
على صعيد آخر، يعرض فيلم "طعم الإسمنت" (2017) للمخرج زياد كلثوم تجربة العمال السوريين الذين هاجروا إلى لبنان هربًا من الحرب ليواجهوا ظروفًا قاسية في الشتات. يُبرز الفيلم التحولات النفسية والاجتماعية التي عاشها هؤلاء المهاجرون، حيث يكشف عن اغترابهم الداخلي ومعاناتهم في مكان اللجوء وفي بُعدهم عن وطنهم. يناقش الفيلم الأبعاد الفردية والجماعية للحرب، مسلطًا الضوء على الضياع الذي يعيشه اللاجئون في ظل غربة مزدوجة عن الوطن والذات.
أما فيلم "الرجل الذي باع ظهره" (2020) للمخرجة كوثر بن هنية، ورغم أنه لا يتناول الحرب السورية بشكل مباشر، فإنه يقدم قراءة إنسانية عميقة للصراعات في زمن الحروب. يحكي الفيلم قصة سام، اللاجئ السوري الذي يبيع ظهره لفنان غربي يحوّله إلى لوحة حية، فيُجسد بذلك معاناة اللاجئين تحت وطأة الاستغلال. يطرح العمل تساؤلات حول الاستغلال السياسي والاجتماعي للاجئين، ويبرز التناقض بين السعي للنجاة وقبول الإذلال. يجمع الفيلم بين قضايا الحرب والهجرة والاغتراب، ليكشف الأبعاد الإنسانية لمأساة اللاجئين في عالم يزداد قسوة.
ورغم الدور المهم الذي لعبته السينما السورية في توثيق الحرب، فقد واجهت العديد من التحديات. نقص التمويل، والرقابة، والظروف الأمنية الصعبة، جعلت إنتاج الأفلام مهمة شبه مستحيلة. كما أدت الهجرة القسرية للعديد من المبدعين إلى تعقيد المشهد السينمائي. ومع ذلك، نجح بعض المخرجين السوريين في التغلب على هذه العقبات باستخدام تقنيات الإنتاج الحديثة وتصوير أعمالهم في المنافي، مما أسهم في إيصال صوت المعاناة السورية إلى العالم.
تظل السينما السورية أداة أساسية للحفاظ على الذاكرة الجمعية وبناء فهم أعمق للواقع. ومن خلال أعمال مثل "من أجل سما" و"طعم الإسمنت" و"الرجل الذي باع ظهره"، لم تكتفِ السينما بتوثيق المأساة، بل ساهمت في إبقاء التجربة السورية حية في الذاكرة الثقافية العالمية. هذه الأفلام كانت بمثابة شهادات إنسانية عكست صمود الشعب السوري وقدرته على مواجهة المحن.
في الختام، تبقى السينما السورية شاهدًا حيًا على معاناة الشعب السوري، ومرآةً تعكس آلامه، وأداةً تنقل صوته إلى العالم. من خلال تقديم سرديات إنسانية تُحفز على التفكير في قضايا السلام والعدالة الاجتماعية، تُسهم السينما في تشكيل هوية ثقافية جديدة في أعقاب المآسي. وهكذا، تُثبت السينما السورية أنها ليست فقط وسيلة للتوثيق، بل أيضًا جسرًا للأمل في وجه الحرب.
- كاتب من المغرب