أحمد حسن
المشهد الذي يعيد إلى الذاكرة صوراً من الزمن البعيد، حين رأينا في الأسبوع الماضي الرافعات السورية تهدم تماثيل حافظ الأسد وابنه بشار في الشوارع والحدائق العامة، هو أكثر من مجرد لحظة عابرة؛ إنه انعكاس حقيقي لتاريخ مظلم، تاريخ الطغاة الذين ظنوا أن القمع والإكراه سيخلدهم، وأنهم سيمرون من صفحات التاريخ بأمان، مع إرساء صورة من الزعامة القائمة على الخوف، لا على القوة الشرعية المستمدة من إرادة الشعب. هذا المشهد يعيدني إلى أكثر من عقدين من الزمن، حين كنت في سن الثالثة عشرة، أشاهد كيف اجتاحت القوات الأمريكية بغداد، وركض الناس بكامل عفويتهم نحو ساحة الفردوس لتحطيم تمثال صدام حسين. لم يكن تمثال صدام وحشياً أقل من تمثال حافظ الأسد، وإن كان الأول قد أسهم في هدم تمثاله على يد الجنود الامريكيين، إلا أن الثاني لم يواجه سوى أبناء شعبه في ذلٍ، حيث انقضت على صورته الوحشية رياح الخيانة التي قادها هو وأبناءه ضد وطنهم.
ورغم هذا، في حين يختلف الطغاة في أساليبهم وقوتهم، فإن النتيجة واحدة: كلهم يتقاسمون في النهاية المصير نفسه. قد نعتقد أن صدام حسين، بالرغم من كل الجرائم التي ارتكبها، كان أفضل حالاً من آل الأسد الذين لم تنجح أمانيهم في أن يأتي أحد آخر ليحطم تماثيلهم سواء كانت من قوى خارجية مثل أمريكا أو إسرائيل، أو حتى من خلال جماعات إرهابية مثل داعش. أما الواقع، فهو أن الديكتاتوريين مثل حافظ الأسد وأبنائه لم يجدوا من يحاكمهم سوى أبناء وطنهم الذين شعروا بالغدر والقمع، فهبوا ليكسروا طواغيتهم بأيديهم، على عكس ما حدث مع صدام حسين وأبنائه الذين، رغم ما ارتكبوه من جرائم، حاولوا إظهار بطولاتهم بعد مقتلهم على يد القوات الأمريكية. إن ما يميز هذا التفاوت بين الأنظمة الدكتاتورية هو أن شعبية الطغاة لا تنبع من الداخل بل من الدعم الخارجي، ومع الوقت يتكشف زيف هذه "الشرعية" عندما يبدأ هؤلاء في الهروب أمام أول عاصفة سياسية.
من هنا، ليس غريباً أن نرى في سوريا مشهداً مكرراً، فكما كانت الدماء تسيل في شوارع بغداد على يد الطغاة، شاهدنا بعد 2011 الدماء نفسها تراق في شوارع دمشق، لكنها لا تُسكت الأصوات المطالبة بالحرية، ولا تُخمد الثورات التي تنبع من الوعي الشعبي. كما قال الجاحظ في كتاباته عن الظلم: "أعظم الخداع هو أن تجعل الحاكم الظالم يعتقد أن قوته من شعبه، وهو في الحقيقة عدو لشعبه". وبينما كان الطاغية صدام حسين يحكم العراق بيد من حديد، كان حافظ الأسد وأبناؤه يعرضون سوريا على مذبح السياسة الإيرانية والروسية، ليبني إرثاً من الخيانة والسيطرة التي لم تنجح في إخفاء وجهه الحقيقي. إن الطغاة يخشون زوالهم لأنهم يدركون أنهم لا يملكون شرعيةً إلا من الخارج، وعندما تنقلب موازين القوى، يصبحون عالة على أنفسهم وعلى من أتى بهم.
أما السياسيون الحاكمون في العراق، الذين طالما تمسكوا بالحياة السياسية على أساس التوازنات الإقليمية، فهم اليوم في حالة من الاستغراب تجاه موقف روسيا وإيران من بشار الأسد. لكن، يبدو أن البعض منهم لا يزال متمسكاً بوهم دعم الخارج، ظناً منهم أن تلك القوى ستظل تدافع عن مصالحهم الشخصية. لكن حتى العراقي البسيط في الشوارع يدرك أن الأسد لم يكن سوى ورقة ضغط استراتيجية، تلاعب بها الإيرانيون والروس، وحين يتيقنون أن هذه الورقة قد أصبحت عديمة الجدوى، لا يترددون في استبدالها بأخرى أكثر فاعلية. ولذلك، فإن هؤلاء الذين يخشون الإطاحة بالأسد هم أولئك الذين تورطوا في القتل والفساد، أولئك الذين أداروا ظهرهم لشعوبهم ورفضوا الإقرار بحقها في العيش بكرامة.
إن الوعي الشعبي في العراق وسوريا أصبح اليوم أكثر نضجاً من أي وقت مضى، وقد بدأ يميز بين السياسيين الذين يأخذون شرعيتهم من شعبهم وبين أولئك الذين لا يعترفون إلا بالقوة العسكرية الأجنبية. كما أن التاريخ يكرر نفسه، فقد كانت الثورات العباسية ضد الأمويين شاهدة على كيفية سقوط الطغاة الذين ظنوا أن السلطان سيبقى بأيديهم للأبد، ولكن الشعب دائماً هو من يكتب النهاية. والدرس اليوم لا يتعلق فقط بالتحليل السياسي، بل بالوعي العميق لدى الناس الذين يدركون أن الطغاة إذا استمروا في الحكم، فإنهم يجرون أوطانهم إلى الهاوية.
في النهاية على السياسيين الحاكمين في العراق أن يتأملوا جيدًا فيما صرح به المرشد الأعلى في إيران، الذي علق على مسألة الإطاحة ببشار الأسد قائلاً:"ليس من المنطقي، ولا يقبله الرأي العام، أن ينهض جيش من إيران ليقاتل بدلاً من جيش سوريا. لا، القتال بعهدة جيش ذلك البلد نفسه. ما كان بإمكان قواتنا أن تفعله إلا العمل الاستشاري".
هذا التصريح يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار لكل من يظن أن الدعم الخارجي يمكن أن يظل متاحًا إلى ما لا نهاية. فإن إيران، رغم كل ما قدمته من دعم للأسد، أدركت في النهاية أن التدخل العسكري المباشر ليس حلاً، وأن مصير أي دولة يتوقف في النهاية على إرادة شعبها وقدرتها على الدفاع عن نفسها. أما أولئك الذين تورطوا في ارتكاب القمع أو التواطؤ مع الأنظمة ضد مصالح شعوبهم، فإن التاريخ يعلمنا أن التواطؤ لا يمر دون حساب. حتى أولئك الذين قدموا الدعم لهم قد يتخلون عنهم في لحظة الحاجة، تمامًا كما فعلت إيران التي حددت دورها الاستشاري فقط في سوريا.
إن هذا الواقع يجب أن يكون درسًا حاسمًا للسياسيين العراقيين الذين يستمرون في الاعتماد على القوى الأجنبية بدلاً من الاستماع إلى صوت الشعب. بالتالي لا يمكن للسياسيين أن يظلوا في الحكم عبر الاستناد إلى تحالفات قائمة على المصالح الخارجية، إذ أن التاريخ يثبت أن أي انحراف أو تورط في قمع الشعب، مهما كان نوع الدعم الخارجي، سيؤدي إلى التخلي عن هؤلاء في لحظة حرجة، إذ لا يوجد ولاء دائم، سوى الولاء للوطن ولشعبه.