ابراهيم البليهي
المفكر الاستثنائي الرائع توفيق السيف يغمرني دومًا بتعليقاته النبيلة والعميقة ومع أننا نختلف في قضية محورية أساسية فإنني أحمل له أعمق الاحترام والاعجاب والمودة ……
أرى أنه لو أمعن النظر لوجد أننا نتفق في وجود القابليات الفطرية ونختلف في طبيعتها وفي الدور الذي تؤديه فهو يتفق مع كانط فيرى أن الإنسان ليس نتاجًا ثقافيا محضًا وإنما يولد بما يمكن أن يوصف بأنه عقلٌ فطريٌّ محض سابقٌ لأي تجربة فهذا العقل المحض يتلقى المؤثرات ويتعامل معها بشكلٍ إيجابي فاعل منذ البداية فهو يفرز ويحكم ويقرر بينما أنني أرى أن الإنسان يولد بقابليات فارغة تتكوَّن بما تتلقاه فالعقل مكتسَب إنه نتاج التعود على ما في البيئة فالإنسان كائنٌ ثقافي فالعقل نتاجٌ اجتماعي ثقافي ولو عاش الطفل بين الكلاب منذ ولادته لصار ينبح كما تنبح الكلاب …..
إن الاختلاف هو اختلافٌ في تفسير القابلية التي يولد بها كل فرد ……
بتفاعل دماغ المولود مع البيئة الاجتماعية والثقافية تتكوَّن له بنية ذهنية قاعدية هي ثمرة قابلية التعود التي يولد بها كل فرد …..
إن الإنسان كائن مقلد ففي الأسبوع الأول لولادة الطفل إذا دلعتْ أمه لسانها أمامه فإنه يدلع لسانه لأنه يملك خلايا دماغية مرآتية تعكس ما يراه وهذا ليس خاصًّا بدماغ الإنسان فقط بل كل الحيوانات بل إن جهاز المناعة في جسم الإنسان يملك قدرة هائلة في الإدراك والفرز والتمييز ……
القول بوجود عقل فطري محض سابق للتجربة بل القول بالثنائية أيضا قال به علماء وفلاسفة منهم أكبر فلاسفة العصر السير كارل بوبر وقد ألَّف بالاشتراك مع عالم الأعصاب السير جون إكلس كتابا بهذا الصدد يحمل عنوان (النفس ودماغها) وقد قام بترجمته المفكر الدكتور عادل مصطفى ……..
أرى بأن علم الأعصاب وما بات معروفًا عن الدماغ وآليات نشاطه وما انتهت إليه العلوم المعرفية ينبغي أن يكون كل ذلك منهيًا لهذا الخلاف فالإنسان يولد بقابليات فارغة تتفاعل مع البيئة وتتبرمج بما تعتاد عليه إن الإنسان بما ينضاف إليه إنه كائن ثقافي يتطبَّع بما في البيئة التي ينشأ فيها فإذا عُزِل عن تأثير المجتمع فإنه لن يكتسب لغةً ولا لهجةً ولا عقلا فالعقل الفردي هو نتاجٌ اجتماعيٌّ …..
إن قابلية التعوُّد في الإنسان هيي أعظم القابليات وهي أيضا أخطرها إن هذه القابلية هي التي تمنح الفرد إمكانية الخروج من الطبيعة الفارغة إلى الانتظام التلقائي في نسقٍ ثقافي سائد لكن هذه القابلية للتطبُّع التلقائي تجعل كل فرد يتطبَّع بما لم يكن له أي دور في اختياره فيصبح مأسورًا بهذا التطبُّع أسرًا لا محيص عنه ولا فكاك منه إلا في حالات استثنائية نادرة ……
ومن هنا بقي العقل البشري مأسورا بالأنساق الثقافية المتوارثة رغم فيض الأفكار المضيئة والتقدم الهائل للمعارف الموضوعية ……