بغداد – تبارك عبد المجيد
شهد القطاع الصناعي في العراق تقلبات حادة بين الازدهار والتراجع على مدى العقود الماضية، متأثراً بالحروب والحصار الاقتصادي وسياسات الانفتاح التجاري. كما انخفضت مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي إلى 1 في المئة، مع تعطيل معظم المعامل وتفاقم التحديات الإدارية والمالية. ورغم محاولات إعادة التأهيل بعد 2003، ظلت العقبات كبيرة، بما في ذلك الإغراق السلعي وضعف بيئة الأعمال.
يعزو المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، أسباب تراجع الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي إلى نسب متدنية لا تتجاوز 1 في المائة سنوياً، لعامليين رئيسيين؛ لأول، التأثيرات السلبية الناجمة عن الحروب والصراعات والحصار الذي تعرضت له البلاد نتيجة سياسات النظام السابق، بينما العامل الثاني يتمثل في سياسة الانفتاح التجاري أو ليبرالية التجارة الخارجية خلال العقدين الماضيين، والتي أسفرت عن الإغراق السلعي وتعطيل معظم مفاصل الصناعة التحويلية في القطاعين الأهلي والحكومي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا القطاع يشغل نحو 16 في المائة من قوة العمل الوطنية.
أوضح صالح، في حديث لـ(المدى)، أن الحكومة تبنت، وفقاً لمنهاجها المعتمد من مجلس النواب في أكتوبر 2022 وخطة التنمية الوطنية للفترة 2024-2028، استراتيجيات طموحة لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية. وتشمل هذه الاستراتيجيات التمويل المشترك مع القطاع الخاص، بحيث تتحمل الدولة نسبة تصل إلى 85 في المئة، إلى جانب تشجيع الاستثمارات لتحقيق نمو تنموي يصل إلى حوالي 5 في المئة سنوياً".
وأشار إلى، أن "تحقيق هذا الهدف يتطلب تعزيز القطاع الصناعي وتحديث التكنولوجيا المستخدمة فيه. وفي هذا الإطار، باشرت الحكومة بمنح الكفالات السيادية لدعم خمس قطاعات صناعية رئيسية في القطاع الخاص، منها الصناعات المتعلقة بالبنى التحتية، وصناعات الأدوية، والصناعات التحويلية البتروكيميائية وغيرها. وتركز هذه المبادرات على تحديث خطوط الإنتاج بما يتماشى مع أحدث المواصفات الفنية والرقمية، مما يسهم في تعزيز قدرات التصنيع الوطنية.
وأضاف صالح، أن "خفض معدل البطالة المستدامة، التي كانت في مستويات مرتفعة وصلت إلى أكثر من 20 في المئة ولكنها انخفضت حالياً إلى 14.6 في المائة، يعتمد على مزيد من الانخفاض نحو معدل البطالة الطبيعي البالغ 3 في المائة. ويرتبط هذا التحسن بزيادة فرص التشغيل في القطاع الصناعي، وهو ما يمكن أن يسهم في رفع مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي من 37 في المائة حالياً إلى حوالي 53 في المائة خلال العقد المقبل". وأكد أن تحقيق هذه النسبة مرهون بقدرة الاقتصاد الوطني على التنويع وتعزيز دور الصناعة التحويلية.
بين التطور والتراجع يقول ناصر المدني، مؤسس جمعية مصنعي الإسمنت في العراق، بأن الصناعة الوطنية في البلاد مرّت بمراحل متعددة على مدى العقود الماضية. وأوضح المدني، "المدى"، أن نشأة الصناعة العراقية تعود إلى خمسينيات القرن العشرين، حيث شُغّلت معامل حكومية في مجالات متنوعة مثل الإسمنت، الصناعات الجلدية، النسيجية، الغذائية، السكر، الأدوية، والصناعات الميكانيكية والكهربائية والكيمياوية، إلى جانب الأسمدة، الزجاج، البتروكيمياويات، والكبريت والفوسفات.
وأشار المدني إلى أن الثمانينيات كانت فترة ذهبية للصناعة العراقية بفضل وفرة السيولة المالية وهيمنة القطاع الحكومي على السوق المحلية. لكن هذه الحقبة أعقبتها انتكاسة كبيرة خلال التسعينيات نتيجة الحصار الاقتصادي الدولي المفروض على العراق، ما أدى إلى صعوبة استيراد المعدات والمواد الاحتياطية، إلى جانب الأضرار التي لحقت بالمنشآت الصناعية بسبب الضربات العسكرية.
وأضاف المدني أن "الوضع الصناعي تدهور بشكل ملحوظ بعد عام 2003 إثر التدخل العسكري الأمريكي وسقوط النظام، مما أدى إلى توقف معظم المعامل وتدميرها. ورغم الجهود المبذولة لإحياء النشاط الصناعي تدريجياً بعد تشكيل حكومة مستقرة نسبياً عام 2008، إلا أن هذه المحاولات واجهت انتكاسة جديدة في عام 2014، عندما أدى دخول تنظيم داعش الإرهابي إلى توقف العمل في المصانع مرة أخرى".
واستطرد المدني قائلاً إن "إعادة تأهيل المعامل بدأت فعلياً في عام 2017 عقب تحرير المدن من سيطرة داعش، إلا أن التحديات المالية أعاقت التقدم. وللتغلب على هذه العقبات، اتجهت وزارة الصناعة والمعادن إلى الاستثمار بالشراكة مع القطاع الخاص، وهي خطوة حققت نجاحاً نسبياً رغم التحديات المرتبطة بالروتين الإداري والفساد المالي، حيث بلغت نسبة النجاح حوالي 70 في المئة".
وفيما يتعلق بصناعة الإسمنت، أكد المدني أن "هذه الصناعة تمثل نموذجاً ناجحاً للصناعات الوطنية، حيث أسهم دخول القطاع الخاص في إنشاء وتشغيل معامل حديثة. وأسفرت جهود جمعية مصنعي الإسمنت في نهاية عام 2015 عن صدور قرار حكومي بمنع استيراد الإسمنت، مقابل التزام الجمعية بتوفير الكميات المطلوبة للسوق المحلية بجودة وأسعار منافسة"، تابع القول "نجحت الجمعية في تنفيذ هذا الالتزام منذ عام 2016 دون أي مشكلات تتعلق بالإنتاج أو الأسعار".
وأكد المدني على أهمية تسهيل إجراءات الاستثمار في القطاع الخاص والتركيز على الصناعات الاستراتيجية الكبرى من قبل الحكومة، مشدداً على ضرورة مكافحة الفساد والتخلص من الروتين الإداري. واعتبر أن "تحقيق هذه الخطوات سيؤدي إلى تطور كبير في الصناعة الوطنية، داعياً للاستفادة من تجربة صناعة الإسمنت كنموذج ناجح يمكن البناء عليه لتعزيز التنمية الاقتصادية في العراق".
من جانبه، أوضح عامر الجواهري، مستشار في التنمية الصناعية، أن "القطاع الصناعي العراقي يواجه تحديات كبيرة تمنعه من الإسهام بفاعلية في الاقتصاد الوطني". وذكر الجواهري في حديث لـ "المدى" أن مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي ما زالت منخفضة للغاية، إذ بلغت نسبتها 1.8 في المائة عند بدء تنفيذ خطة التنمية الوطنية للفترة 2024-2028، مع استهداف رفعها إلى 2.2 في المائة خلال خمس سنوات.
وأشار الجواهري، إلى أن "تحقيق هذا الهدف يتطلب نمواً سنوياً في القطاع الصناعي بمعدل 4.4 في المائة، وهو ما يستدعي استثمارات كبيرة، حيث من المتوقع أن يقدم القطاع الخاص نحو 35 في المائة من هذه الاستثمارات وفق الفرضيات الحالية". ومع ذلك، أكد أن النجاح في تحقيق هذه الطموحات يعتمد بشكل كبير على الجهود الحكومية لتمكين القطاع الخاص، خاصة في ظل بيئة أعمال وصفها بأنها غير تنافسية وضعيفة للغاية، وأحياناً غير مناسبة للاستثمار.
تناول الجواهري التحديات التي تواجه الصناعة العراقية، مشيراً إلى غياب التخطيط الواضح وضعف التزام الجهات المعنية بتنفيذ الوعود والمشاريع المعلنة. وأوضح أن "الصناعة تعاني من مشكلات أساسية، أبرزها عدم تفعيل المؤسسات الداعمة للقطاع الصناعي وغياب رؤية واضحة للتطوير". ولفت إلى أن تحقيق النهضة الصناعية يتطلب تغييرات جذرية في أساليب العمل، من خلال وضع أهداف عملية مثل إنشاء وتشغيل ألف معمل صغير سنوياً ضمن خطة التنمية الوطنية، فضلاً عن إعادة تشغيل المعامل الأهلية المتوقفة.
ودعا الجواهري إلى تفعيل دور مجلس التنسيق الصناعي ليصبح خلية عمل فعالة قادرة على قيادة القطاع الصناعي. واقترح أن يقوم المجلس بوضع خطط تفصيلية لكل محافظة لتحديد عدد المعامل العاملة والمستهدفة. كما شدد على أهمية إنشاء مدن صناعية في كل محافظة لتوفير بيئة مناسبة للمشاريع الصناعية، موضحاً أن هذه المدن يجب أن تكون مجهزة بجميع الخدمات والبنية التحتية الضرورية. وأشار إلى أن الحكومة يجب أن تتولى هذه المشاريع نظراً لطول فترة استرداد الاستثمار، مع إمكانية الاستفادة من المطورين والشراكات الاستثمارية.
وأكد الجواهري على الحاجة الملحة لإنشاء المجلس الأعلى للتنمية والإصلاح ليتولى المهام التنموية بشكل شامل ومستدام. وشدد على أن هذا المجلس يجب أن يركز على القطاع الصناعي نظراً لطبيعة استثماراته طويلة الأجل. كما دعا إلى تعزيز دور الجهات الحكومية مثل المديرية العامة للتنمية الصناعية ودائرة التطوير والتنظيم الصناعي، وهما جهتان تابعتان لوزارة الصناعة. واعتبر أن هذه المؤسسات يمكن أن تسهم في تحقيق النهضة الصناعية إذا تم دعمها بالشكل المناسب.
وأشار الجواهري إلى أهمية دور الجهاز المصرفي في دعم القطاع الصناعي، مؤكداً أن البنوك يمكن أن تكون شريكاً أو ممولاً رئيسياً للمشاريع الصناعية. وبيّن أن النهوض بالصناعة يتطلب دعماً مالياً مستداماً، وهو ما يستدعي جهازاً مصرفياً قوياً ومرناً. وشدد الجواهري على ضرورة إصلاح بيئة الأعمال وتفعيل مؤسسات التنمية الاقتصادية على المستويين الوطني والمحلي. داعياً إلى تشكيل مجالس تنمية وإصلاح في كل محافظة لدعم الخطط التنموية وضمان تنفيذها بفعالية، فيما أكد أن القطاع الصناعي يحتاج إلى إجراءات حقيقية وعاجلة بعيداً عن الشعارات والوعود، لتحقيق التقدم المطلوب وجعل العراق منافساً في الأسواق الإقليمية والدولية.
خفض معدلات البطالة مرهون بقدرة الاقتصاد على تعزيز الصناعة التحويلية
نشر في: 23 ديسمبر, 2024: 01:04 ص