د. فالح الحمراني
كما تؤكد وسائل الإعلام الإيرانية، فإن العلاقة بين طهران ودمشق* كانت تمثل قاعدة استراتيجية المقاومة الإيرانية. وتستند التهديدات المنبثقة عن فقدان الرئيس السوري إلى المخاوف من استبدال الأسد بقوات تصفها طهران بالإرهابية. كما أنها تشعر بالقلق من التحول في التركيز نحو عدو إيران" الأبدي"، إسرائيل. وقد بدأت الحقائق تتضح بالفعل - فقد صرح زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع (المعروف باسم أبو محمد الجولاني) قبل أيام بأنه لن يسمح باستخدام الأراضي السورية كنقطة انطلاق للهجوم على إسرائيل. ويتناقض هذا الموقف تناقضًا حادًا مع دعوات إيران المستمرة لتدمير إسرائيل. ففي منتصف الأسبوع الماضي، نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية عن المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي قوله:" إن فكرة الولايات المتحدة والنظام الصهيوني وبعض حلفائهم حول نهاية المقاومة خاطئة تماما؛ فالذي سيُدمر هو إسرائيل. ويتصور النظام الصهيوني أنه يستعد لتطويق حزب الله عبر سوريا، لكن إسرائيل هي التي ستُدمر بالكامل". ورداً على الادعاء بأن التطورات في سوريا تعني نهاية المقاومة، قال آية الله: "هذا تصور خاطئ تماما".
ولكن، هناك أيضًا قلق جدي في إيران من احتمال اسئناف الحرب الأهلية واستمرارها بشكل أكثر عنفًا من ذي قبل والدخول في مرحلة نشطة من عمليات التجزئة في سوريا: فقد تجذب الميول الانفصالية الأكراد المحليين والمسيحيين، والدروز والعلويين والسنة. كما أن صعود التيار الجهادي الإسلامي يؤشر إلى احتمال استعادة تنظيم الدولة الإسلامية قوته تدريجيا.
وهناك قلق وأمل بين الإصلاحيين الإيرانيين أيضاً. وكما كتب موقع" الدبلوماسية الإيرانية"، نقلاً عن رأي المستشرق الشهير دانيال برومبرج، فإن موضوع قلق الإصلاحيين هو أن الأحداث الأخيرة في سوريا قد انعكست سلبا على البنية السياسية للجمهورية الإسلامية." لكن بدأ بشكل آخر الى ما كان يُعتقد بان المرحلة تشهد استقرار حتمي لجيل جديد من المتشددين. وفي الوقت نفسه، فإن سقوط الأسد لم يفقد المتشددين الإيرانيين ضعف مواقعهم فحسب، بل قدم أيضاً سبباً كافياً لاستئناف التواصل الدبلوماسي مع الولايات المتحدة - وهو موقف لطالما فضله الإصلاحيون". ويعتقد أن الإصلاحيين على الأرجح سيستغلون هذه الفرصة لإحياء نفوذهم في الداخل والخارج على حد سواء.
ويرى مراقبون أن ليس هناك شك في أن هناك علاقة طبيعية، بين المحاولات غير الفعالة دائمًا للإصلاحيين في عهد الرؤساء خاتمي وروحاني والحالي مسعود بيزشكيان، لإعادة بناء النظام السياسي في إيران، من ناحية، وبالتالي نقل البلاد إلى "المستوى الليبرالي"، ومسألة العلاقات الإيرانية الأميركية الحساسة، والتي تعارضها جميع القوى المحسوبة على الجناح الأساسي للمؤسسة في إيران. ومن غير الممكن أن يتم تلوين الإصلاحيين الإيرانيين بلون واحد، وذلك لأنهم لا يحملون الكراهية الشديدة أو الخوف غير القابل للتفسير من القوة الثقافية والإيديولوجية التي تتمتع بها الولايات المتحدة والتي هي متأصلة في منافسيهم العنيدين في المعسكر الأصولي.
لقد كان العديد من الإصلاحيين والليبراليين في إيران منذ فترة طويلة مدفوعين بالنفوذ السياسي الغربي، حيث درسوا في الجامعات هناك وتلقوا دورات وتدريبات مختلفة، وعاشوا لفترة طويلة في أوروبا أو الولايات المتحدة. على سبيل المثال، نائب الرئيس الخاص الحالي، الذي يعتبر نفسه ليبرالياً، والذي كان لسنوات عديدة رئيساً لوزارة الخارجية الإيرانية، محمد جواد ظريف، ولد عام 1960 في عائلة متدينة محافظة، ومنذ عام 1977 درس في الجامعة حصل على درجة البكالوريوس من كاليفورنيا في سان فرانسيسكو في كلية العلاقات الدولية، وحصل على درجة البكالوريوس هناك عام 1981. ثم واصل دراسة العلاقات الدولية والقانون الدولي في جامعة دنفر (كولورادو)، وفي عام 1984 حصل على درجة الماجستير هناك وفي عام 1988 على درجة الدكتوراه.
كما عاش حسن روحاني رئيس إيران 2013-2021 لسنوات عديدة في الغرب ويتقن اللغات الأوروبية الثلاث الرئيسية. وفي عام 1995 حصل على درجة الماجستير في العلوم من جامعة كاليدونيان في غلاسكو حول موضوع "السلطة التشريعية الإسلامية كما توضحها تجربة إيران". وبعد أربع سنوات، في عام 1999، حصل في نفس الجامعة على درجة الدكتوراه في الفلسفة (دكتوراه) في القانون العام . وكما كتب المستشرق المذكور أعلاه د. برومبرغ على موقع الدبلوماسية الإيرانية، فإن الإصلاحيين الإيرانيين استلهموا من الماركسية والليبرالية الكلاسيكية والوجودية وما كان يسمى ذات يوم "العالم الثالث" لخلق رؤية للتغيير السياسي ليس من خلال ثورة شعبية، ولكن من خلال عملية عملية صعبة. البناء على بناء التحالفات وتعزيز سياسات أكثر انفتاحًا.
ونظراً للطيف السياسي المعقد للمجتمع الإيراني، فقد حافظ الإصلاحيون المحليون، في محاولة لتحقيق الاستقرار في سلطتهم السياسية المحلية، على التفاعل مع الغرب، وجزئياً، مع الولايات المتحدة. فقبل ربع قرن من الزمان، بدأ الرئيس محمد خاتمي آنذاك "حوار الحضارات". والواقع أن كل الرؤساء الإصلاحيين، من خاتمي إلى روحاني إلى الرئيس الحالي مسعود بيزشكيان، تابعوا تنفيذ هذا الحوار. نسخة أو أخرى من هذا النهج. لقد كان الإصلاحيون الإيرانيون هم الذين ساعدوا في التوصل إلى الاتفاق بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2015، والتي أصبحت نقطة ارتكاز سياسية واستراتيجيّة في النضال من أجل احتواء اليمين المتطرف. لقد مُنحت إيران فرصة مدتها 10 إلى 15 سنة لإعادة بناء الاقتصاد الإيراني وربط البلاد بالاقتصاد العالمي والدبلوماسية. للأسف، لم يصبح حقيقة. وانسحبت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس دونالد ترامب، من الاتفاقية في عام 2018. ومع انتخاب الرئيس إبراهيم رئيسي عام 2021، بدا المشروع الإصلاحي وكأنه انهار تماما.
ومع ذلك، ربما يكون سقوط نظام الأسد قد منح الإصلاحيين حياة جديدة. ويجب علينا أن نتذكر، كما كتب موقع الدبلوماسية الإيرانية، أنه منذ البداية، كانت استراتيجية المقاومة الإيرانية مبنية على ركيزتين: استخدام القوة العسكرية أو التهديد باستخدامها، إلى جانب الدبلوماسية. وعلى الرغم من أن المتشددين كانوا يكرهون الإصلاحيين، إلا أنهم كانوا بحاجة إليهم للتواصل مع العالم الخارجي. والآن أصبح من الواضح على نحو متزايد أن الإصلاحيين ما زالوا يلعبون دوراً رئيسياً في كسر العزلة. ولهذا السبب، نقلت الدبلوماسية الإيرانية عن مجلة العلاقات الخارجية في 2 ديسمبر 2024، أن "بيزشكيان يريد الاستقرار والتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط … لكنه يريد أيضًا الانخراط بشكل بناء مع الغرب. وإن إدارته مستعدة لإدارة التوترات مع الولايات المتحدة… وتتطلع إلى مفاوضات متساوية بشأن الاتفاق النووي – وربما أكثر من ذلك".
ويجمع المراقبون على أن هذه الآمال ليست بلا أساس. في ضوء الأحداث الأخيرة، تمر السياسة الخارجية الإيرانية بنقطة تحول مهمة. وبوسع إيران أن تستمر في توسيع برنامجها النووي المحفوف بالمخاطر أو الانخراط في دبلوماسية جادة لتغيير الاستراتيجية التي تنتهجها، والتي استندت لفترة طويلة إلى صيغة "لا حرب ولا سلام". ويختتم موقع "الدبلوماسية الإيرانية" بالقول: "ومع ذلك، فمن السابق لأوانه تحديد كيف سيكون رد فعل ترامب على محاولات إيران للتعاون مع واشنطن".
*استفادت المادة من تقارير لوسائل الإعلام الروسية.