عبد الكريم البليخ
يُظهر التنقل بين الدول العربية ودول العالم الأخرى حقيقة مؤلمة تكشفها المشاهد اليومية. أعداد كبيرة من المثقفين وأصحاب العقول المتميزة في المنطقة العربية لم يعد لديهم مكان في أوطانهم أو في المناصب التي ينبغي أن تحتضنهم وتستفيد من قدراتهم.
من الغريب أن العديد من الدول العربية لا تدرك أهمية هؤلاء "المهاجرين المؤقتين"، حتى في أوقات حاجتها الماسة إلى خبراتهم ومهاراتهم. فالعلماء، والمفكرون، والمتخصصون في السياسة، والاقتصاد، والعلوم، وغير ذلك، غالبًا ما يُتركون دون دعم أو تقدير، مما يدفعهم للبحث عن فرص أفضل في الخارج.
اللافت للنظر هو التناقض الصارخ في تعامل بعض الدول العربية مع الكفاءات. ففي الوقت الذي تُنفق فيه الأموال والامتيازات على الخبراء الأجانب، نجد أن الكفاءات المحلية تُعامل بتقشف، رغم امتلاكها لمهارات وخبرات لا تقل كفاءة. على سبيل المثال، المهندس الأوروبي يُمنح عقد عمل مغريًا وامتيازات استثنائية، بينما يُعامل المهندس العربي غالبًا باستخفاف، ويتقاضى أجرًا أقل رغم تساوي المؤهلات.
هذه الظاهرة ليست مجرد مشكلة فردية، بل أزمة اجتماعية واقتصادية عميقة تُسهم في نزيف العقول. في المقابل، تستقطب الدول الغربية العقول العربية عبر تقديم فرص عمل جاذبة ودعم البحث العلمي، ما يوفر بيئة تُحفز على الإبداع.
في ظل هذا التناقض، يبرز التساؤل: لماذا تُترك الكفاءات العربية لتُهاجر؟
الوطن العربي غني بالموارد والإمكانات التي، لو أُحسن استغلالها، لتمكن من احتضان نبوغ أبنائه. ولكن مع استمراره في تجاهلهم، يخسر الوطن ليس فقط الخبرة التي يمكن أن تُسهم في تنميته، بل أيضًا الأموال التي تُنفق لاستقدام خبرات أجنبية.
العقول العربية، التي أُطلق عليها أوصاف مثل "الأدمغة الهاربة" و"الطاقات المُبددة"، تنتمي إلى نخبة من المتخصصين في مجالات الفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرهم. تلك النخب، التي اجتذبها الغرب واندمجت في منظوماته، أصبحت جزءًا من حضارته. لكن هل يُلامون على ذلك؟
لو أن دولهم العربية وفرت لهم المناخ الملائم، من مصانع وقواعد تسليح ومراكز بحثية، لما كان تسرّبهم إلى الخارج بهذا الحجم المؤلم. لكن الواقع العربي المُحبط، بما فيه من تبعية اقتصادية وتنافس غير متكافئ مع القوى الأجنبية، جعل هذه الهجرة أمرًا لا مفر منه.
في هذا السياق، تُعتبر هجرة العقول العربية "طردًا" وليس اختيارًا، إذ يُدفع العلماء والمبدعون دفعًا للرحيل، سواء بالوسائل القهرية أو تجاهل أفكارهم ونبوغهم. تُحول البيروقراطية والنظم المتخلفة وجودهم إلى موضع شك وريبة، وتعتبر إبداعهم تهديدًا.
في أوطانهم، تُقيد العقول العربية بتحديات يومية تافهة، من صراعات على المناصب إلى البيروقراطية المميتة. بينما في الخارج، يجدون ملاذًا في مؤسسات تدرك قيمتهم وتوفر لهم الحرية والإمكانات اللازمة.
لا تنحصر المشكلة في نقص الموارد، بل تمتد إلى غياب التخطيط وضبابية الرؤية. تتفاقم الأزمة عندما تتحول مختبرات ومرافق البحث إلى كيانات مُهملة بسبب ضعف الصيانة، أو نقص العمالة المؤهلة، أو محدودية الميزانيات المخصصة.
رغم فداحة هذه الظاهرة، فإنها تُنفس عن الضغوط والتناقضات التي يعيشها المفكرون العرب في أوطانهم. لكنها في الوقت ذاته تحرم الوطن من طاقاته الخلاقة التي يمكن أن تُسهم في تطويره.
في المجتمعات العربية، لا يحظى المخترع أو العالم بالتقدير الاجتماعي أو الاقتصادي الذي يستحقه، في ظل هيمنة قيم مادية تُفضل التاجر أو صاحب النفوذ. هذا التهميش يُرسّخ عزلة العقول العربية، ويُعمّق أزماتها النفسية والاجتماعية.
لوقف نزيف العقول، تحتاج الدول العربية إلى إعادة تقييم سياساتها. عندما تُدرك أهمية العقل العربي وتوفّر له بيئة تحترم نبوغه وتُكفل له الاستقرار، ستتمكن من استعادة كفاءاتها وتوظيفها لبناء مستقبل أفضل.
السؤال، متى تُعيد الدول العربية النظر في سياساتها تجاه الكفاءات؟ الجواب يبدأ بتغيير جذري في طريقة التفكير، والاعتراف بأن التنمية الحقيقية تبدأ من الاستثمار في الإنسان ودعم قدراته.
بهذا فقط، ستتشبث العقول بجذورها، ولن تضطر إلى البحث عن حياة جديدة في أراضٍ بعيدة.
الحل ليس معقداً، لكنه يتطلب تغييراً في العقلية، يتطلب أن نؤمن أنَّ المبدع العربي لا يقل شأناً عن نظيره الغربي، وأنَّ التنمية الحقيقية تبدأ من الإيمان بقدرات أبنائنا ودعمهم ليكونوا جزءاً من الحل، وليس ضحايا للتجاهل والإقصاء.
إنَّ وجودهم في تلك الديار الغريبة معناه انحيازهم للإبداع الإنسـاني بمعناه الشامل، والتفرّغ لأبحاثهم واكتشافاتهم، وقد توفرت لديهم الحوافز المعنوية والمادية والمناخ العلمي والفكري الذي يحفظ نبوغهم، ويعترف بفضله ويهبه ما يستحقه من رعاية وإجلال.
البقاء أو الهجرة خارج حدود الوطن، تلك المعادلة التي لن يستطيع أن يحل رموزها سوى الوطن الكبير المشتت، وهو يلعق جراحه ويرقب بأسى تطاحن الأشقاء مخلفين وراءَهم أهم ما يجب الالتفات إليه.. نوابغ الوطن ومستقبله العلمي!