طالب عبد العزيز
يتصل بي صديقي العربي الذي يسكن مدينة الفلاحية بإقليم الاحواز قائلاً:" باچر أعبر" فأتنبه الى أنه لم يقل:" أسافر، أو أحصل على تأشيرة سفر، بل لم يتحدث عن حقيبة ومتاع، أو مثل هذه العبارات التي تدلُّ على مغادرة بلاد الى بلاد أخرى، كذلك يكون الامر مع أصدقائنا وأهلنا في مدن المحمرة وعبادان وغيرها، هم لا يسافرون، إنّما يعبرون النّهر (شط العرب) ليس أكثر من ذلك، ليكونوا هنا، في البصرة، أو في أي مدينة من مدن الوسط والجنوب بين أهلهم.
وحين يعبرون سيكون الفندق مجرد مكان لتأمين الحقائب، فهو محطة استراحة ليس إلا، وغالباً ما يُجبرُ كثيرٌ منهم على تركه، والإقامة في بيت أقربائه أو أصدقائه. منذ أن سقط النظام قبل أكثر من عشرين سنة وأنا زائرٌ مترددٌ على كثير من الأصدقاء هناك، في مدن وضواحي إقليم الاحواز-لا أفضِّلُ مفردة أهواز، فهي أعجمية، وتلك عربية، من الحيازة والامتلاك- أقيم في بيوتهم، نعم، ليس لي أهل هناك، لكنَّ أصدقائي هناك كثيرون، فهم ومنذ عشرين عاماً باتوا الاهل والأصدقاء معاً، ولم أشعر هناك إلّا بالطمأنينة والمحبة والسلام، ولي بيهم أيامٌ وليالٍ من المباهج والسعادات لا تخلعها النوازلُ والله.
في دليل الخليج للوريمر، جون كوردن لوريمر(1870-1914) أقرأ بأنَّ العرب المسلمين فتحوا سوق الاحواز القريب من مدينة الأبلة السومرية القديمة سنة 17 للهجرة، وأنَّ الاهواز تعدُّ جزءاً من أرض بابل، أي من السهل الجنوبي لبلاد الرافدين، ويورد بيتاً لابن المقرّب العيوني يقول: (تسيرُ الى الاحواز من أرض بابل – وليس سوى اسيافه خفراؤها) ويذهب الشيخ خزعل الكعبي أمير المحمرة(1863-1936) في رسالة منه الى الحاكم البريطاني في بغداد أبعد من ذلك، حين كان الانجليز يبحثون عن ملك على عرش العراق فهو يكتب:" أنا عراقيٌّ، وأنا أحقُّ بالعرش من أيِّ شخص آخر". ونجد في رحلة تكسييرا ما يشبه ذلك، ففي سنة 1604 يعبر اليهودي البرتغالي بيدرو تكسييرا شط العرب، فيجد المنطقة كلها شرقي ذلك النهر تحت حكم مبارك بن المطلب، وهو زعيم عربي، كان يطالب بالبصرة، وظلَّ في حرب طويلة دائمة مع الاتراك.
على امتداد قرون طويلة تعززُ كتب الرحالة فكرة عبور الشط عند سكان الضفتين، فهم لا يسافرون، هم يعبرون النهر حسب ليكونوا في بيوتهم، أو بيوت أهلهم وأصدقائهم، ليتضح لي بأنَّ مطالبة ابن المطلب بوضع البصرة تحت حكمه أو ترشيح الشيخ خزعل لعرش العراق أعمال لم تأت من فراغ، وليست ابتداعاً، وبذلك صرتُ أستشعر وجود الأصدقاء القادمين من هناك الى البصرة بوصفه البحث عن وطن مفقود، عن لاصق كوني يجعل من ضفتي النهر مراداً وأملاً وأنَّ مدن وضواحي الاحواز ما هي إلا الجزء المقتلع من الوطن، والملصقة بوطن لا ينتمون له، وأنهم الغرباء في ترابهم ونخلهم وأشجارهم ومياههم، غرباء في جغرافيا كانت خالصة لهم، وفي لغة لا تصلح لألسنتهم.
جلُّ أصدقائي هناك هم من الكتاب والشعراء والفنانين، ممن يحسنون التكلم بالعربية والفارسية معاً، لكنني، أخجلُ من سؤال أحدهم ما إذا كان يستطيع الكتابة بالعربية أم لا؟ ذلك لأنني أعلم بأنَّ الدرس العربي محال في التعليم، اللهم إلا في بعض مناهج التعليم العالي، كما أنني لم أرَ يافطةً دالةً على دار أو متجر أو مدرسة أو مؤسسة رسمية مكتوبة بالعربية! قد يبدو أمرٌ كهذا من المسلّم به عند العامة من الناس هناك، لكنه سيكون قاتلاً عند المتعلم، الكاتب والشاعر والفنان والمؤرخ والباحث، هذا الذي تقع اللغة في جوهر اشتغاله، المطّلع على جوهر التكوين الجغرافي والتاريخي والسياسي للمدن هذه، والواقف على الوشائج الكبيرة، التي كانت ستكون الوطن، ومن ثم وقف على النتائج القاتلة، التي حالت دون وجود ذلك الوطن الغائب، الذي لم يقم إلا ساعة من الزمن.