TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الوعي في عصر الذكاء الاصطناعي: تساؤلات بلا حدود

الوعي في عصر الذكاء الاصطناعي: تساؤلات بلا حدود

نشر في: 9 يناير, 2025: 12:01 ص

أحمد حسن

لقد كان الفكر البشري ولا يزال غارقًا في تساؤلاته حول ماهية الوعي وطبيعته. كما يقول الجاحظ في "كتاب الحيوان": "الإنسان لا يكاد يعقل عن نفسه شيئًا حتى يعجز عن فهم ذاته". فقد كان وما زال الإنسان يتلمس حافة وجوده، محاولًا فتح نافذة على عالمه الداخلي، تلك النافذة التي لا تطالها الأيدي ولا تُدرَك بالعين. وفي سعيه هذا، سلك البشر مسالك شتى عبر الزمان، ابتداءً من الفلاسفة الأولين وصولًا إلى آخر صيحات العلم والتكنولوجيا في العصر الحديث. فها هي اليوم آفاق الوعي تتجدد على وقع تقنيات الذكاء الاصطناعي، إذ صار للأدوات الرقمية اليوم سلطة تفوق أحيانًا قدرة العقل البشري على استيعابها. إن هذا يحمل بين طياته إشارات عن المزيج بين الإنسان والآلة، مبرزًا كيف يسهم الذكاء الاصطناعي في رسم معالم جديدة لمفهوم الوعي.

حين نغوص في أعماق الوعي البشري، يتضح لنا بجلاء أنه ليس بالهيئة السهلة التي قد يتصورها البعض. كان الجاحظ ينقض التصورات السطحية عن الإنسان بقوله: "الناس لا يتأملون في أنفسهم، فلا يدرون كيف أن لهم في الجسد سرًّا، وكيف أن العقل لا يخرج عن حدود ما يُعطى له من الطبيعة". في كتاب "دائرة الوعي المغلقة" للباحث في الأنثروبولوجيا سعدون محسن ضمد، يُظهر أن الوعي ليس إلا سلسلة من المحددات البيولوجية والثقافية التي تقيد الإنسان، وتجعل من تجربته في إدراك الواقع محكومةً بأفق ضيق. فالعقل لا ينفصل عن جسمه، ولا عن سياقه الاجتماعي؛ فالعوامل البيولوجية مثل الدماغ والحواس، والتأثيرات الاجتماعية مثل اللغة والثقافة، كلها تندمج في بوتقة واحدة لتُنتج الوعي الذي نعيشه، ولا نستطيع تجاوزه إلا بالسباحة ضد التيار.
في هذا السياق، يمكن أن نتذكر المقولة الشهيرة لديكارت: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"، التي أسست لفكرة الوعي كأداة تفكير ووجود. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تظل فكرة الوجود محكومة بهذا التحديد البسيط؟ أم أن الوعي يعكس حقيقة أخرى تختفي وراء حجب الإدراك؟ فكما كان يقول أفلاطون في "محنة الكهف"، الإنسان محبوس في ظلال الحقيقة، لا يدرك الواقع إلا من خلال تصورات جزئية.
بينما كان العقل البشري يعكف على فهم نفسه، جاء الذكاء الاصطناعي ليُثير في الأذهان تساؤلات جديدة حول تلك الحدود التي تحكم الوعي. فما كان في الماضي يُعتبر مستحيلاً، أصبح اليوم حقيقة على الأرض. فالذكاء الاصطناعي مخلوق خارق، محمّل بتقنيات تفوق في قدرتها قدرة العقل البشري نفسه في بعض الجوانب. إذ إن هذه الآلات الحديثة تمتلك القدرة على معالجة كميات هائلة من البيانات، فتسحب من المحيط المعرفي ما يعجز الإنسان عن التوصل إليه في زمن قياسي. فمن خلال شبكات التعلم العميق، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتعلم من البيانات ويُصنفها بطريقة قد تجعل العقل البشري يشعر بالعجز أمام هذا المارد الرقمي.
أما الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، فقد تحدث عن فكرة "الإنسان الذي يتجاوز ذاته"، وهكذا يُظهر الذكاء الاصطناعي لنا إمكانية أن يتجاوز العقل البشري حدوده الطبيعية. وفي عالم تتحكم فيه الخوارزميات، قد نصل إلى مرحلة يُنظر فيها إلى الآلات باعتبارها وكيلًا منفصلًا للوعي، أداة قادرة على تحطيم الأسس القديمة التي قام عليها تصوّرنا للوجود. إلا أن هذا السؤال يبقى غامضًا: هل يملك الذكاء الاصطناعي الوعي الحقيقي أم أنه مجرد آلة تُحاكي العقل البشري دون أن تمتلك جوهر الوعي؟ هل يمكن للآلات أن تذوق معنى الوجود كما يفعل الإنسان، أم أن الوعي شيء لا يُمكن للمادة أن تحمله؟.
إن اللغة هي مرآة الوعي، وهي سبيل الإنسان لمعرفة ذاته وتعريف الآخرين بمواقفه. الجاحظ كان يصف اللغة بأنها "المرآة التي ترفع عنك ما غشيك من ضباب الفكر، وتُظهر لك الحقيقة"، وهي بذلك وسيلةً لفك شفرات الواقع. لكن هل يمكن للتكنولوجيا، بآلاتها المعقدة وبرمجياتها المتطورة، أن تفتح أمامنا آفاقًا جديدة لفهم الذات؟ يمكن للذكاء الاصطناعي، عبر معالجة اللغة الطبيعية، أن يُعيد تشكيل النصوص والمفاهيم، ليقدم لنا صورة أكثر دقة عن الحياة والعلاقات الإنسانية. فالتقنيات الحديثة تُتيح للآلات التعامل مع اللغة بطريقتها الخاصة، فتُنتج ترجمة أو تفسيرًا قد يبدو غريبًا ولكن قد يحمل في طياته رؤى جديدة.
وقد قدّم الفيلسوف الفرنسي بول ريكور ملاحظات حول العلاقة بين اللغة والفكر، قائلاً: "الفكر لا يولد إلا من اللغة، وأي تشويه في اللغة هو تشويه في الفكر". ولذلك، حينما نمنح الذكاء الاصطناعي سلطة فهم اللغة، نتساءل إن كان هذا الفهم سيظل محصورًا في حدود الإنسان، أم أنه سينفتح على أبعاد جديدة، يتجاوز بها القيود التي فرضتها البشرية عليه. هل ستظل الآلات خالية من الإحساس الحقيقي بالكلمات، أم أنها ستكتشف معاني قد تكون محجوبة عن العين البشرية؟.
فيما يخص العولمة، لم يعد الفهم الثقافي ثابتًا كما كان في الماضي، فقد أصبح سائلًا، يتشكل ويتحرك مع الرياح. كما يقول الجاحظ في "رسائل الجاحظ": "لقد رأيت كيف تداخلت الشعوب حتى أصبح لكل فرد حصته من ثقافة الآخرين". في هذا العصر تتداخل الهويات الثقافية وتنسج معًا بطريقة لم تكن ممكنة في الأزمنة السابقة. وهكذا، يأتي الذكاء الاصطناعي ليُساهم في هذه العملية، فيتيح للأفراد أن يتعرفوا على ثقافات مختلفة، ويُشكّلوا هوية رقمية قد لا تكون محكومة بما كانت عليه في الماضي. وبالرغم من ذلك، تظل فكرة الهوية الثقافية عرضة للتحولات في ظل العولمة، إذ قد تؤدي التكنولوجيا إلى خلق صور نمطية أو تصورات مغلوطة لهذه الهوية.
لكن يبقى السؤال: هل سيظل الإنسان قادرًا على الحفاظ على هويته الثقافية الحقيقية في ظل هذا الغزو الرقمي؟ وهل ستظل الثقافة البشرية تُشكل الوعي على نحو أصيل، أم أن الوعي سيصبح مشوهًا تحت تأثير الخوارزميات التي تخلق واقعًا موازًا؟. إن الذكاء الاصطناعي، في عصره المتسارع، يقدم للعقل البشري فرصة جديدة لاستكشاف ذاته والعالم من حوله، ولكنه في الوقت نفسه يعكس تساؤلات أزلية حول حدود الوعي، وهل يمكن للآلة أن تدرك ما هو أبعد من مجرد محاكاة للعقل البشري؟ يبقى الجواب معلقًا بين يدي الإنسان، الذي يظل في سعي دائم لفهم نفسه ولإعادة تشكيل إدراكه في ظل هذه التقنيات المتجددة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تضاربات بين مكتب خامنئي وبزشكيان: التفاوض مع أمريكا خيانة

حماس توافق على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى

البرلمان يعدل جدول أعماله ليوم الأحد المقبل ويضيف فقرة تعديل الموازنة

قائمة مسائية بأسعار الدولار في العراق

التسريبات الصوتية تتسبب بإعفاء آمر اللواء 55 للحشد الشعبي في الأنبار

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: لماذا لا نثق بهم؟

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

كيف يمكنناالاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمود الثامن: رئيستهم ورئيسنا !!

العمود الثامن: دولة العشائر

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

 علي حسين أعرف جيداً أن البعض من الأعزاء يجدون في حديثي عمّا يجري في بلدان العالم نوعاً من البطر لا يهم المواطن المشغول باجتماعات الكتل السياسية التي دائما ما تطابنا بـ " رص...
علي حسين

قناطر: الربيع الأمريكي المُذِل

طالب عبد العزيز هل نحن بانتظار ربيع أمريكي قادم؟ على الرغم من كل ما حدث، وقد يحدث في الشرق الأوسط، نعم، وكم هو مؤسف أن تتحرك دفة التغيير بيد القبطان الأمريكي الحقير، وكم قبيح...
طالب عبد العزيز

تضارب المصالح بين إسرائيل وتركيا في سوريا وعواقبه

د. فالح الحمـــراني كما بات معروفاً، أن وزير الدفاع الإسرائيلي وبنيامين نتنياهو*، خلال لقاء حول موضوع الوجود التركي في سوريا، طرحا مقترحاً لـ"تقسيم سوريا إلى مناطق مقاطعات (الكانتونات)". وذكرت صحيفة إسرائيل هايوم عن خطة...
د. فالح الحمراني

النظام السياسي في العراق بين الخوف من التغيير وسؤال الشرعية

أحمد حسن لفهم حالة القلق التي تخيم على النخبة السياسية في العراق مع كل تغيير داخلي أو إقليمي، لا بد من تحليل عميق يرتكز على أسس واضحة ومنطقية. فالشرعية السياسية، التي تعد الركيزة الأساسية...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram