طالب عبد العزيز
الأسفلتُ قديمٌ، والمرأةُ تمسحُ عروقَ الماء، تتصببُ في الزجاج شاقوليةً ومائلةً، لكنَّ المقهى قريب. هي في المقعد الخلفي الآن، تنتظرُ ما ينتظره العَوامُ السابلةُ، ساعةَ ذهب سائقُ الأجرة يقضي حاجةً. صاحبُ المتجر شبه نائمٍ، وكيلا يكون الوقتُ جامداً في الأعمدةِ ظلّت حباتُ المطر تهمي، فيرينُ صمتٌ، لا يخدشه اعتلال صوت الأغنية في الراديو: الخمرةُ تجعلكَ أطولَ عنقاً، وأصغرَ سنّاً أحياناً قالت، والهواءُ الذي يكتهل على شَعْركِ كانَ بارداً يقول:
كنتُ تلفتُّ ما فيه الكفايةِ أمس، هذا لا يعني أنَّ أحداً ما يتعّقبني. هذه قبّعتي مازالت بكرزها الذي تعرفه، وحقيبةُ يدي بعُطلها القديم، وبما تحدثه أصابعُك فيها من فرقعات، وهناك الكثيرُ الذي سنفعله الليلة. أحملُ كأسَ النبيذ الى سريرك مثلاً، وأجرجرُ حبلَ صمتك خارج سور الحديقة، أو أقولُ للوردة في الاصيص: لا تكوني بيضاءَ أكثرَ، وربما أصلحتَ بابَ خزانة الثياب! تشبهُ خوخةَ المسجد قبضةُ الرجلِ الذي التقيته في دكانة الدمى البارحة، كان يهشُّ هواءً لا يتبينه بين الهواء، ولأنَّكَ بعطرك، سوط الفحولة الابدي ماتزال، لن أحفلَ بمن سألتقي الليلةَ، المقفلةَ على النأي والثلج، أريدُ أنْ أضحك طويلاً، وأنْ تبكي طويلاً أنت، كثيرون أولئك الذين لا يهمّهم أمرُ جثتي في السرير!
ليس من أجل هذه جئتُ! أردتُ أنْ أتحدثَ عن الحرس الذي يعيدُ ترتيب الحبل على عنق المحكوم بالإعدام حسب، وسواءٌ عليَ، أتأخرتُ في منشار الوقت أم جئتُ بمركبة الندم، سيأتي من يصلحُ صنبور الحديقة المكسور، وإن لم يتوقف المطر، وإن لم يُمجَّد النهدُ عالياً، وهذا الزجاج أفقٌ يشفُّ! في البيت، حيث يهجرني كلُّهم، ثمة ما تستعين به على حمل جثتي الى الباب، هناك حيث تقف مركبة نقل أرواح الغرباء بانتظارك.
من عشبة في الحديقة حملتُ البقدونس اليك، ومن كويكب صغير بخزانة الثياب اهتديتُ الى مشبك شعري، لم يكن النعناع كما أردت، ولا الشبتُ بالرائحة التي تعرفها، وقميصي الذي جاءت اللقالقُ البارحةَ به ظلَّ مستكيناً، يعفرهُ ترابٌ، يشينه ألّا يعصف به ذهابُك وإيّابُك، ليست الريح من يتأخرُ في بذرة الباقلاء دائماً، ولا الأوركيدا التي تزعنفها يدُ العاصفة الآن، لهذه الزروع من كؤوسنا نصيبٌ. سنذهب الى الليل معاً، أنت ثملٌ وأنا نصفُ عاشقة.
أنت لا تهرمُ، أنت تحرِّضُ المنافي على جسدك، أحدهم، لا أنتَ، سيعانقني الليلةَ، وسأتنفسُ عفنَ الذكورة في اِبطيه، وستطولُ ذراعي ساعة أطوّقه، مسكين ذلك الذي لا يحلم بيد تحت رأسه، وفقير في قلبه وعينه الذي لا يدله أحدٌ على بيتي، فترفّقي أيتها الينابيعُ البعيدة، كوني آخر ما يؤنسُ أنفاسَ الزنبق في جسدي. في السهول لا تحتاجُ الخيولُ الى أسماء، الفيافي كذلك تكون، هي تُمَجَّدُ حسب. الجبالُ القريبةُ التي تتفتتُ حجارتها شوقاً، تُسعدُ بالنظر اليها.
في الريح التي تمرضُ خلف النافذة خطابُ امرأة هُجرتْ للتو، أكاد المُسُ أصابعَها وهي تقترب، وهي تنأى. الذين جعلوا السماء زرقاء لم يصلوا بعد، هم يعيدون ترتيب الماعز على السفوح وفي الاودية أيضاً. أساورُها لا تحصى، ولا أحد يسمّي الفضة إلّايَ بكاحلها، أكثرُ من عكنٍ لي في بطنها، في الصيف القادم، أخطط لأزرع قرعاً. ما سيأتي به الربيع يلوح بقرني الثور، الذي تحبّه نائماً.
أنتَ الفجر الذي ينبثق وحده، وأنتَ الغروبُ يموت صامتاً، لن تلحق بك الشموسُ التي دفنتها بنخلك، وسيأتي من يحملك على ظهره الاحدب، وتشققُ الريحُ كفنك على الطريق، ولأنك كذلك لا تدع الرواةَ يدفنونك في الامالي، وإنْ كثرت. يا أنت، يا من استعمرتَ قلبك في الظمأ والنساء، لتخفق عنادلُها بصمت المرأةُ التي يسّاقطُ من أكمامها آسٌ كثير.