TOP

جريدة المدى > عام > في مديح الكُتب المملة

في مديح الكُتب المملة

نشر في: 12 يناير, 2025: 12:03 ص

كه يلان محمد
رحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى اكتشـــاف مصادر المعرفة لاتخلو من الملل.ومن المحتمل أن تكون هناك مؤلفات لن تحظى بالمقروئية على نطاق واسع ومما يزيدُ العزوف عنها هو التعقيد الذي يكتنفها.
لذلك قد لايسعُ المرء إلا إبداء الإعجاب عندما يصادفُ من يجوبُ مملكة كانط أو هيغل الفلسفية شارحاً أفكار القطبين أو باحثاً عن المفاهيم التي غابت عن الآخرين في فتوحاتهما الفلسفية.بالطبع كما أنَّ تصاعد جمهور القراء ليس محكاً لجودة الكتاب كذلك فإنَّ محدودية التلقي لايفهمُ منها قلة التأثير أو الانسحاب إلى الظل.على سبيل التمثيل لا الحصر فإنَّ كتاب "نقد العقل الخالص" لكانط لايتصدرُ قائمة القراء ولا حتى المختصين في الفلسفة وقد تعثرَ عدد غير القليل من المغامرين بقراءته من الصفحات الأولى غير أنَّ ذلك لم يلغِ ارتداداته المزلزلة على الصعيد الفلسفي. وإذا كانت هناك عقولُ تعاني من عسر الهضم لبعض المؤلفات فإنَّه من الخطأ الإشهار بهذه الحالة حجةً عليها.
مفاتيح الكتاب
وما يجنبُ العقل من الاصطدام هو التدرج في القراءة إذ ثمة كتب يجبُ البحث عن مفاتيحها قبل النزول إلى حلبة متونها.يشيرُ المفكر السوري هاشم صالح إلى أنَّ ابن سينا قد حاول مراراً وتكراراً قراءة كتب الميتافيزيقيا لأرسطو وباءت مساعيه بالفشل إلى أنَّ وقع صدفة على شرح الفارابي للمعلم الأول في حينها قد انقشعت الغموض.ينصحُ وول ديورانت القراء بعدم الذهاب مباشرة إلى كانط بل الأجدرُ بمن يهمه فهم أعمال الفيلسوف الألماني متفادياً التخبط في ألغازه أن يقرأ مانشر عنه.هل يعني ذلك التحرك في مجال الكُتب التي لايشقُّ عليك قراءتها ولاتكلفُ كداً ذهنياً؟ من المؤكد أن هذا المنحى لايحققُ انطلاقاتٍ نوعية ولايكسبُ القارىء مستوىً أفضل ولا لياقة أقوى.تماماً كما أنَّ الفريقَ الذي لايلعبُ مع خصمٍ أفضل يتدنى مستواه مع الوقت كذلك الأمر بالنسبة إلى القراءة باتجاه واحد لاتمنحُ الفكر فرصة اختبار طاقته بنصوص جديدة.ومن المبالغةِ القولُ بأنَّ مصاحبة الكتب والأعمال الأدبية والفكرية هي مغامرة شيقة في الحقيقة لو كان الأمر على هذا المنوالِ لما استغرقَ ترويض عدد من الكتب وقتاً طويلاً وما داهمَ المللُ المزاجَ بالاشتباك مع التراكيب التقنية أو ملاحقة الشخصيات المتناثرة في براح النص الروائي. ربما المللُ لايأتي من الكتب بل يكون مصدره طبيعة القارىء الملولة حسب رأي الكاتب العراقي "علي حسين" أو عدم الاختمار في مسيرة القراءة يفردُ صاحبُ " دعونا نتفلسف" كتابه الجديد "لماذا نقرأ الكتب المملة؟" لاستعادة تجربته مع العناوين التي يحومُ حولها دخان الغموض وصارت معروفة بالصعوبة في الصياغة والخط الذي تنتظمُ عليه مادتها إذ يشيرُ علي حسين في المقدمة إلى أنَّ التحدي الأبرز للقراءة هو المنصات الافتراضية ومايبسطُ على جدارها من المنشورات السائغة للمُتابعين.يبدو أنَّ عدد القراء قد تضاعف بفضل الوسائط الرقمية لكن ذلك قد لايعتدُ به لأنَّ مايقرأ في هذه البيئات لاينهضُ بالفكر وليس كاشفاً للممرات الجديدة.قبل أن يسردَ علي حسين قصته مع الكتب الدسمة يؤكدُ بأنَّه منذ أن تصفحَ أول كتاب في حياته وإلى اللحظة التي ينضدُ فيها كلمات إصداره الأخير وهو يعيشُ مسكوناً بحب الكتب.إذ يعاقرُ ما جادت به عقول أساطين الأدب والفكر مستعيداً في هذا الصدد بداياته عندما كانت أسماء تولستوي وسارتر وعبدالرحمن منيف تخطفُ بصره مُتهيباً من سحب مؤلفاتهم المرصوصة في الرفّ.ومن المتوقع أن تتواردُ آراءُ في مديحِ القراءة في أي كتاب قوامه التجربة الشخصية في عالم يتسعُ لمزيد من المُغامرات والحفر في أرضية غير معهودة فبرأي مارسيل بروست تقومُ ذاكرة القارىء الوجدانية على المؤلفات التي منحت لوناً لأوقاته وهي بمثابة التقاويم التي يمكن الاحتفاظ بها لأيامٍ قد مضت.تضاهي القراءة لدى حنة أرندت عملية إنشاء عالم يستهوينا العيشُ فيه.والقوى الخارقة یستحیل الوصول إلیها إلا من خلال القراءە علی حد تعبیر الفلكی الشهیر غالیلو. يعترفُ الكاتبُ في فصول مؤلفه بأنَّ هناك عناوين قد صدمته ولم يتمكن من فك ألغازها وتأتي في المقدمة " يوليسيس" و "البحث عن الزمن المفقود" لافتاً إلى محاولاته العابثة بقراءة "أصول الرياضيات" لبتراند راسل.إذ يتأكدُ من الصفحات الأولى بأنَّه مغتربُ في جغرافية كتابٍ يقالُ بأنَّ عشرة أشخاصٍ نجحوا في اختراق سياجه المنيع.والأمر يتكررُ في قراءة كتاب " الوجود والزمان" لهايدغر ويختبرُ علي حسين حظه بمواجهة كتاب "النسبية" لأنيشتاين ولاتؤتي المحاولة أُكلها إلى أنْ يكتشفَ أجزاءً من خارطة نظرية النسبية عن طريق مانشره الكاتب المصري مصطفى محمود وماتبع ذلك من التمهيد إلى معقل الفيزيا عن طريق مؤلفات الدكتور عبد الرحمن مرحبا.ومع المضي في القراءات يعرفُ حسينُ أكثر عن آنيشتاين وخلفيته الفكرية فقد كان مهتما بفلاسفة القرن التاسع عشر بمشاربهم المتباينة واتجاهاتهم المتعددة.وتأثر بالفيلسوف الانكليزي "ف.ب برادلي" خصوصاً بعصارة أفكاره في كتاب " المظهر والواقع" واللافتُ أن الشاعر "ت. س إليوت" يشاركُ أنيشتاين في الشغف بمواطنه ويكرسُ لهذا الفيلسوف أطروحة دكتوراه مُناقشاً نظريته عن الزمن ولاينتهي الأمر باختصاصه الأكاديمي بل تعكسُ نظرية برادلي في ثيمات قصيدة " الأرض اليباب" والبحثُ عن مفهوم الزمن يقودُ إليوت إلى رحاب محاضرات آنيشتاين حيثُ يدور الحوار بين الاثنين بشأن الطبيعة النسبية للزمان والتبدلات التي تشهدها البنية المكانية ومفاعيل كل ذلك في مصائر البشر.ومايشدُ الانتباه في هذا الإطار أنَّ جميس جويس كان شغوفاً بكتاب "النسبية الخاصة" وكان يضعه على مرمى نظره ومن الجلي بأنَّ المشترك بين الثلاثة جويس وآنيشتاين وأليوت هو تناول البعد الزمني. ومما يقدمه علي حسين عن العالم الفيزيائي آنيشتاين يؤكدُ بأنَّ الاختصاص لايمنع من الاغتراف من مصادر معرفية أخرى وهو كان يقرأُ الروايات التي تصوغُ براهين حياتية إذ وجدَ في ذلك فرصة للتفكير المُمتع في جوانب باطنية من شخصية الإنسان.قبل أنْ تنتهي جولة الكاتب مع آنيشتاين يلمحُ إلى توقير الأخير لكانط وقراءته لكتاب "نقد العقل المحض" عندما كان في الرابعة عشرة من عمره ويعتقدُ صاحب نظرية النسبية بأنَّ العلوم الطبيعية مَدينةُ في تطورها لما قدمه كانط في فلسفته.إلى هنا يبدأُ علي حسين بسرد قصته مع مدشن عصر التنوير ورحلته المتعثرة مع كتابه العلامة "نقد العقل الخالص" ولايعودُ إلى عالم كانط إلا من خلال زكريا إبراهيم كما يسمعُ من الروائي فؤاد التكرلي الذي كان من زوار المكتبة التي كان يعملُ فيها علي حسين الشاب أنَّ بعض الكتب تحتلُ مكانةً متميزة ليس لأنَّ الجميع قرأها وفهمها.أو لأنها كتبُ ممتعةُ بل لأنها مارست تأثيراً على الفكر البشري. بالطبع لايمكنُ أن تصل مروحة الكلام إلى كانط دون التذكير بأسئلته الثلاثة التي تلخص جميع اهتمامات العقل التأملية والعملية.ماالذي يمكنني معرفته؟، ماالذي يجبُ عليَّ القيام به؟ ما الذي قد آمله؟.يتابع علي حسين جولاته مع كتب من وزن ثقيل ويكون "أصل الأنواع" لتشارلز داروين حاضراً في حلبة القراءة علماً أنَّ هذا الكتاب لمئة عام وأكثر حفنةُ من المتابعين تمكنوا من هضمه وفهم تضاريسه المتشعبة.
لمحات سيرية
مشاركة الأفكار التي تحفلُ بها الكُتب الوازنة مع الآخر صنعةُ يلمُ المرءُ بأسرارها بعد أن يسخو بشطر كبيرٍ من العمر للقراءة لاشكَّ بأنَّ سيرة أي إنسان تحملُ بصمات مهنته واهتماماته الشخصية فما يرويه صاحب " الكتب الملعونة" عن تجربته مع مصاحبة أعمال الفلاسفة والأدباء.هو الوجه الأبرز لحياته التي لاتنفصل محطاتها عن التنقيب في المكتبة لذا ما إنْ يُفتح قوس روايته على أي كتاب حتى تتداعى إلى ذهنه صور عدد من الأشخاص الذين كان لملاحظاتهم دور في نضجه الفكري والإدراك بأنَّ هناك كتباً يصعبُ عليه النهلُ من مخزونها الثرى مباشرة بل يستدعي الأمرُ التدجُج بخلفية ثقافية قبل البحث عن موطىء القدم على الأطلس الفكري والحال هذه يعترف حسين بأنَّه قد استفاد من ترشيحات الدكتور محمد سلمان لإيجاد مدخل إلى تربة الفكر الاقتصادي. كما يضيء له العلامة علي جواد الطاهر بتعليقاته على طه حسين، سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، هوميروس مناطق جديدة في الفكر والأدب وينفعه جبر إبراهيم جبرا بدرس ثقافي بليغ بأنَّ بعض الكتب الملبدة بالملل هي نتاج لعزلة صاحبها ومعاناته في سبيل اكتشاف نفحة عبقرية يتحولُ العمل من خلالها أيقونةً إبداعية. أكثر من ذلك يكتسبُ المقيمُ في المكتبةِ مهارة الترويض للأعمال الملحمية إذ يعاود قراءة رواية "البحث عن الزمن المفقود" التي يعتبرها نابوكوف فعلا إيمانياً بآلية مختلفة ولايستعجلُ في إكمالها إنما يتابعُ بالبطء وقائع عالم بروست. ضف إلى كل ما ذكر آنفاً أنَّ علي حسين يستهويه الحفرُ في حياة الكُتاب الذين صحبهم على امتداد مسيرة تكوينه المعرفي مباغتاً القارىءَ بمعلومات غير مألوفة عن بدايات أقطاب الفكر ويخبرك بأنَّ جاك ديريدا أراد أن يكون لاعبَ كرة القدم محترفاً غير أنَّه سرَعان ما يتخلى عن هذا الحلم لأنَّه لم يتفوق في ذلك كما يكفي. ويتقل عن ماركيز بأنَّ التفكير في رواية "مئة عام من العزلة" قد استغرق اربع عشرة سنةً قبل أن يشرع بالكتابة معتكفاً عليها ثمانية عشر شهراً،ونواة كتاب "الوجود والعدم" لسارتر كانت تلك الملاحظات التي قد سجلها في دفتر صغير أثناء أيام الحرب. والطريف عندما سئل سارتر وهو قيد أغلال الأسر عمَّا ينقصه فأجاب فورا "هيدغر" هكذا لا يقف علي حسين عند حافة الأفكار المجردة بل يرحل بالقارىء إلى لحظة انشقاقات بعض المفكرين عن المظلة الآيدولوجية والسجالات الحامية بين الأصدقاء ومن المناسب الإشارة إلى ماورد في الكتاب من ردّ جوزيف برودون على كارل ماركس حيثُ يحتجُ على الأخير مطالباً بالكفِ عن التبشير بعدما تم إعلان الحرب على العقائد.قبل أن يقفلَ قوس الكلام من المهم التذكير بما تناوله علي حسين ضمن حلقات مؤلفه عن حياة آلان باديو ورأيه الصريح بأنَّ الفلسفة التي لن تكون ميتافيزيقا للسعادة ليست جديرة بمكابدة العناء في أروقتها.مجمل ما يمكنُ قوله عن الكتاب أنَّه يكسر الحاجز النفسي بين القارىء والأعمال والمشاريع التي ذاع صيتُ أجوائها المملة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram