TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > من المسألة الصهيونية إلى التحدي الفلسطيني: ماهي الوسيلة نحو الانعتاق الذاتي وبناء الذات

من المسألة الصهيونية إلى التحدي الفلسطيني: ماهي الوسيلة نحو الانعتاق الذاتي وبناء الذات

نشر في: 13 يناير, 2025: 12:01 ص

محمد صبّاح

(1-2)
في نهاية القرن التاسع عشر، كانت أوروبا تمر بتحولات فكرية واجتماعية عميقة، حيث نشأت أفكار جديدة تتعلق بالهوية القومية والعرقية، وعلاقتها بالدولة. في هذا السياق، ووسط الأزمات التي كان يعيشها اليهود في المجتمعات الأوروبية، برزت الصهيونية كإجابة على ما سُمي بـ"المسألة اليهودية"، أي تحديات اليهود في مجتمعات لم تقبل دمجهم بشكل كامل. ظهرت الصهيونية، التي لم تكن مجرد رد فعل ديني، بل حركة علمانية تهدف إلى إقامة وطن قومي لليهود بعيدًا عن الاضطهاد والعزلة التي عاشوها على مدار قرون.
لكن الفكر الصهيوني كان بعيدًا عن أن يكون مجرد حلم ديني بالعودة إلى "أرض الميعاد"، بل كان مشروعًا قوميًا يتجاوز الأبعاد الدينية ويعتمد على الفلسفة السياسية والاجتماعية لتحقيق هدفه. هذا الفكر تجمع في شخصيات بارزة مثل تيودور هيرتزل، ليون بنسكر، ناثان بيرنباوم وآحد هعام، الذين كان لكل منهم إسهاماته الفكرية والعملية التي ساهمت في تشكيل الهوية الصهيونية الحديثة.
ناثان بيرنباوم: الصهيونية الثقافية كركيزة لهوية مستقلة من بين الأسماء البارزة في الحركة الصهيونية، يبرز ناثان بيرنباوم، الذي قدم تصورًا فريدًا يميز بين اليهودية كدين وبين اليهودية كهوية قومية وثقافية. في مقولته الشهيرة: "لا يمكن للأمة أن تنهض دون ثقافة، ولا يمكن للثقافة أن تزدهر دون وطن." كان بيرنباوم يشير إلى ضرورة بناء هوية يهودية جديدة تكون مبنية على الثقافة العبرية، بعيدًا عن الدين. في كتاباته، أكد على أن: "الثقافة هي القوة المحركة التي ستعيد لنا وحدتنا وتحررنا." في سياق رؤيته، دعا بيرنباوم إلى إعادة إحياء اللغة العبرية من خلال التعليم والفنون والآداب، معتبرًا أن اللغة هي أساس بناء الأمة. كان يعتقد أن الثقافة العبرية يجب أن تكون جزءًا لا يتجزأ من حياة اليهود اليومية، وأن هذا البناء الثقافي يجب أن يبدأ في فلسطين. في هذا السياق، قال: "إن الأمة اليهودية لن تكون حقيقة إلا إذا تطورت ثقافيًا وروحيًا في وطنها." تيودور هيرتزل: بناء الدولة القومية كشرط للكرامة الإنسانية
تيودور هيرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية السياسية، كان يعتقد أن حل "المسألة اليهودية" لا يكمن في التعايش مع المجتمعات الأوروبية، بل في تأسيس دولة يهودية مستقلة تضمن الأمان والكرامة للشعب اليهودي. قال في كتابه الشهير "الدولة اليهودية" (1896): "إذا أردنا لليهود أن يعيشوا في سلام، لا بد أن يكون لهم وطن." أوضح هيرتزل أن اليهود، في نظره، لا يمكن أن يجدوا وطنًا حقيقيًا لهم في أوروبا، حيث العداء والتمييز العنصري يحيطان بهم من كل جانب. في إحدى تصريحاته الشهيرة، قال: "الشعب الذي لا يملك أرضًا هو شعب بلا مستقبل." كان هيرتزل يعتبر أن إقامة دولة يهودية في فلسطين هي السبيل الوحيد لتحقيق الاستقلال السياسي والكرامة الإنسانية لليهود في مواجهة الاضطهاد المستمر. كانت رؤيته تتجاوز مجرد العودة إلى "أرض الآباء"، بل كانت دعوة لتأسيس أمة يهودية تعيش بحرية وتحقق ذاتها بعيدًا عن تاريخ طويل من العزلة.
ليون بنسكر: الإنعتاق الذاتي طريق للحرية في كتابه "أوتو-تحرير اليهود" (1882)، قدم ليون بنسكر فكرة أن اليهود يجب أن يتحرروا بأنفسهم ويأخذوا مصيرهم بين أيديهم. "لقد حاولنا الاندماج في المجتمعات الأوروبية ولكننا فشلنا"، يقول بنسكر في بداية كتابه، وهو يصف معاناتهم المستمرة في أوروبا. وكان بنسكر يعتقد أن الحل الوحيد لتحرير اليهود هو أن يكون لهم وطن خاص بهم في فلسطين. كان يرى أن معاداة السامية ليست مجرد ظاهرة مؤقتة، بل هي جزء من طبيعة المجتمعات الأوروبية. ولذلك، أضاف بنسكر: "لقد حاولنا أن نكون جزءًا من هذه المجتمعات، ولكننا تعرضنا دائمًا للطرد والتهميش." مذبحة كيشف (1881) كانت بمثابة الجرس الذي نبه إلى ضرورة التحرك، وقال بنسكر: "إذا كان اليهود لا يستطيعون العيش بسلام في أوروبا، فما المانع من أن يكون لهم وطنهم الخاص بهم؟" كانت هذه هي الدعوة التي ألهمت العديد من الأجيال اللاحقة من الصهاينة. آحد هعام: الثقافة والروح فوق السياسة
كان آشر جينسبيرغ، المعروف بآحد هعام، من المفكرين الذين تناولوا فكرة الصهيونية من زاوية ثقافية وروحية. لم يكن يرى الصهيونية مجرد حركة سياسية تهدف إلى إقامة دولة، بل كان يعتبرها ضرورة لإعادة بناء الروح اليهودية. قال: "ليست القضية في أن نبني دولة، بل في أن نُعيد بناء أنفسنا." آحد هعام شدد على أن فلسطين يجب أن تكون مركزًا ثقافيًا وروحيًا لليهود، ليس بالاعتماد على الدين فقط، بل عبر إعادة بناء الهوية الثقافية لليهود. كانت رؤيته تشير إلى أهمية إحياء اللغة العبرية والتعليم اليهودي في فلسطين كوسيلة لإعادة بناء الأمة. قال: "إذا لم تُبن الأمة ثقافيًا وروحيًا في وطنها، فلن تكون أمة حقيقية." كان هعام يعتقد أن هوية الأمة يجب أن تكون مُعرفة من خلال ثقافتها وتاريخها المشترك، لا من خلال الدين فقط، وأكد: "إذا كانت الأمة اليهودية تفتقر إلى الثقافة، فإنها لن تستطيع أن تحيا كأمة."
إيليعازر بن يهوذا: اللغة كأداة لبناء الأمة كان إيليعازر بن يهوذا، اللغوي والصحفي، أحد أبرز الشخصيات التي ساهمت في إحياء اللغة العبرية وتحويلها من لغة دينية إلى لغة ثقافية وعلمية. في مقولته الشهيرة: "إن اللغة هي أساس الأمة، وبإحيائها يمكننا بناء الأمة اليهودية مجددًا." كان بن يهوذا يؤمن أن إحياء اللغة العبرية لا يشكل مجرد استعادة للتراث، بل هو خطوة ضرورية لبناء الأمة اليهودية الحديثة. لقد عُرف بن يهوذا بتعليم أبناءه اللغة العبرية في المنزل، مؤمنًا أن هذه اللغة هي التي ستربط بين اليهود في مختلف أنحاء العالم. قال: "اللغة ليست مجرد أداة تواصل، إنها رابط روحي وفكري بين أفراد الأمة." من خلال عمله في إنشاء أول قاموس عبري، كان بن يهوذا يسعى إلى تحويل العبرية إلى لغة حية وعصرية تتناسب مع تحديات العصر الحديث. في هذا السياق، أضاف: "لن تكون لدينا أمة يهودية حقيقية إلا إذا كانت لغتها حية وذات مكانة اجتماعية." الاستقلال الاقتصادي: برانديز وروتشيلد في دعم المشروع الصهيوني
على الجانب الاقتصادي، كان لويس برانديز، القاضي اليهودي الأمريكي، من بين أبرز الداعمين لفكرة استقلال اليهود اقتصاديًا في فلسطين. قال برانديز: "النجاح في فلسطين لا يعتمد فقط على الأعمال الخيرية، بل على رأس المال اليهودي." كان يعتقد أن الصهيونية بحاجة إلى بناء اقتصاد مستقل قائم على الاستثمارات اليهودية في فلسطين. من خلال الصندوق القومي اليهودي الذي تأسس في 1901، تم جمع الأموال لشراء الأراضي وإنشاء مستوطنات مثل الكيبوتس. وكان برانديز يصرح: "إذا أردنا بناء وطن، يجب أن نضمن استقلالنا الاقتصادي."
في هذا السياق، لعبت عائلة روتشيلد دورًا محوريًا في دعم المشاريع الصهيونية في فلسطين. قال بارون روتشيلد: "القوة الاقتصادية هي مفتاح نجاحنا في فلسطين." لم يكن دعم روتشيلد مقتصرًا على التمويل، بل شمل أيضًا الدعم الفني والبنية التحتية التي مكّنت المستوطنات من أن تصبح مستدامة اقتصاديًا.
· كاتب فلسطيني

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: تعريف المواطنة

العراق والشيزوفرينيا السياسية تجاه سوريا

العمود الثامن: جوبز ولعبة التصريحات

العمود الثامن: حسقيل يرثي حالنا

معارك إيلون ماسك .. الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) نموذجاً

العمود الثامن: جوبز ولعبة التصريحات

 علي حسين أراد العراقيون بعد عام 2003 ان يعيشوا الحرية التي حلموا بها منذ عقود ، لكن السياسيين وجدوا حلولا تلغي فيها احلام المواطن العراقي لتسود احزاب المصالح والمنافع . قرر الساسة الكرام...
علي حسين

إيران في حسابات ترامب

د. فالح الحمـــراني قبل أيام قليلة من احتفال إيران بعيد، الثورة المصادف في في 4 فبراير جدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بموجب مرسومه سياسة "الضغط الأقصى" على إيران. والهدف منها هو منع إيران من...
د. فالح الحمراني

من الفكر الأخلاقي عند السيد حسين الصدر

غالب حسن الشابندر تحتل القضية الاخلاقية مكانة قصوى في اهتمامات السيد حسين إسماعيل الصدر، فالرجل لا يكاد يطرق قضية في مسائل الاجتاع والحقوق والواجبات والمواطنة حتى نجد للاخلاق مساحة كبيرة في طرحه أو طروحاته...
غالب حسن الشابندر

رئاسة بولندا للاتحاد الأوروبي: هل تكون مثالا لأوروبا؟

لويز ألميراس ترجمة: عدوية الهلالي بعد نزاع دام سبع سنوات مع بروكسل،تولت بولندا رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي تحت رعاية طيبة وأصبحت اليوم دولة رائدة في أوروبا. ولاتخيفها برلين، ولا بروكسل، ولا حتى موسكو. لقد...
لويز ألميراس
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram