محمد الربيعي*
(الحلقة 12)
التجربة السويدية
في عالم يتطلب الابداع والتفكير النقدي لمواجهة تحديات لم نعهدها من قبل، هل ما زلنا نعلم ابناءنا بالطرق التقليدية التي تعتمد على الحفظ والتلقين؟ بينما يتسارع العالم من حولنا، تزداد الحاجة الى انظمة تعليمية تعد اجيال المستقبل لمواجهة هذه التحديات. وهنا، تقدم السويد نموذجا ملهما يركز تحديدا على تنمية هذه المهارات الاساسية، من خلال نظام تعليمي يشجع على التعلم العملي والتفاعل الفعال بين الطلاب والمعلمين. ففي السويد، لا يقتصر الامر على مجرد نقل المعرفة، بل يتعداه الى بناء شخصيات مفكرة ومبدعة وقادرة على حل المشكلات واتخاذ القرارات بشكل مستقل. هذاالتركيز على بناء الشخصية المستقلة، من خلال تشجيع الطالب كفرد على الاستقلالية والمسؤولية، يساهم في تخريج افراد مثقفين ومنتجين يساهمون بدورهم في بناء مجتمع مزدهر. لذلك، تعتبر هذه التجربة كنزا ثمينا يمكن ان تستفيد منه الدول العربية في تطوير انظمتهاالتعليمية وبناء مستقبل واعد لاجيالها. فلنكتشف معا كيف يمكن ان تغير هذه الافكار واقع التعليم في عالمنا، وكيف يمكن ان نحول مدارسنا من مجرد اماكن للتلقين الى بيئات حاضنة للابداع والابتكار.
التعليم المدرسي (الابتدائي والثانوي):
الشمولية والمجانية: تتبنى السويد فلسفة تربوية تركز على تنمية قدرات الطفل بشكل شامل، وتشجيع التفكير النقدي والابداع وحل المشكلات. كما يولي النظام التعليمي اهتماما خاصا بدعم الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة ودمجهم في المدارس العادية، مما يعزز من مبداالشمولية. اضافة الى ذلك، تقدم الدولة دعما ماليا للطلاب في المرحلة الثانوية وما بعدها، مما يساعدهم على اكمال تعليمهم العالي دون عوائق مالية. يساهم هذاالنهج الشامل في بناء مجتمع مثقف ومنتج، ويعزز من مبادئ العدالة والمساواة بين جميع افراد المجتمع..
التركيز على الطالب: تتميز التجربة التعليمية في السويد بتركيزهاالشديد على الطالب كفرد له احتياجاته وقدراته المتميزة. ينصب التركيز على تنمية شخصية الطالب بشكل شامل، من خلال تشجيعه على التفكير النقدي المستقل، وتحفيز ملكة الابداع لديه، وتدريبه على مواجهة المشكلات وايجاد الحلول المناسبة لها. يبتعد النظام التعليمي السويدي عن اساليب التلقين والحفظ التقليدية، التي تعتمد على استرجاع المعلومات بشكل جامد. بدلا من ذلك، يشجع الطلاب على طرح الاسئلة، والبحث عن المعرفة بانفسهم، والمشاركة الفعالة في العملية التعليمية، مما يساهم في بناء جيل مثقف ومبتكر وقادر على مواكبة تحديات العصر.
التعاون والعمل الجماعي: يعد التعاون والعمل الجماعي حجر الزاوية في التجربة التعليمية السويدية، حيث يعتبر جزءا لا يتجزا من العملية التعليمية برمتها. لا يقتصر التعليم على تلقين المعرفة بشكل فردي، بل يشجع الطلاب على العمل سويا ضمن مجموعات متنوعة. من خلال هذه الممارسة، يتعلم الطلاب مهارات حياتية بالغة الاهمية، مثل التعاون المثمر، والتواصل الفعال، وتبادل الافكار ووجهات النظر المختلفة، وتقبل اراء الاخرين، وادارة النقاشات بشكل بناء. يساهم هذاالنهج في تنمية روح الفريق والمسؤولية المشتركة، ويعد الطلاب لمواجهة تحديات الحياة العملية التي تتطلب غالباالعمل ضمن فرق متكاملة. كما يعزز العمل الجماعي من قدرة الطلاب على حل المشكلات بشكل جماعي، والاستفادة من نقاط قوة كل فرد في المجموعة.
المرونة والتنوع: يتميز النظام التعليمي في السويد بالمرونة والتنوع، حيث يتيح للطلاب مجموعة واسعة من المسارات التعليمية التي تناسب اهتماماتهم وقدراتهم الفردية. لا يقتصر التعليم على مسار اكاديمي واحد، بل يوفر خيارات متنوعة تشمل المسارات الاكاديمية التقليدية التي تؤهل الطلاب للالتحاق بالجامعات، بالاضافة الى مسارات مهنية تركز على اكتساب المهارات العملية والتطبيقية التي تمكنهم من الانخراط مباشرة في سوق العمل بعد التخرج. يساعد هذاالتنوع الطلاب على اختيار المسار الذي يناسب طموحاتهم وقدراتهم، ويمكنهم من تحقيق اهدافهم التعليمية والمهنية على اكمل وجه. كما يساهم هذاالنهج في تلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة، وتخريج كوادر مؤهلة في مختلف المجالات.
التقييم المستمر: يعتبر التقييم المستمر ركيزة اساسية في النظام التعليمي السويدي، حيث يعتمد على المتابعة الدقيقة والمستمرة لاداء الطالب وتقدمه طوال العام الدراسي، بدلا من التركيز على الامتحاناتالنهائية كمعيار وحيد للتقييم. يهدف هذاالنهج الى توفير تغذية راجعة مستمرة للطالب حول نقاط قوته وضعفه، وتوجيهه بشكل فعال نحو تحسين ادائه وتطوير مهاراته. يساعد التقييم المستمر المعلمين على فهم احتياجات الطلاب الفردية وتقديم الدعم اللازم لهم في الوقت المناسب. كما يشجع الطلاب على التعلم المستمر وعدم تأجيل الدراسة الى ما قبل الامتحانات، مما يساهم في تحقيق نتائج افضل على المدى الطويل. يقلل هذاالنظام من الضغط النفسي على الطلاب المرتبط بالامتحانات النهائية، ويركز على عملية التعلم نفسها كهدف اساسي.
التعليم العالي (الجامعي):
الاستقلالية والمسؤولية: يتميز نظام التعليم العالي في السويد بالتركيز على الاستقلالية والمسؤولية، حيث يشجع الطلاب على تولي زمام تعلمهم واتخاذ قراراتهم بانفسهم. يعتبر العمل المستقل والدراسة الذاتية جزءا لا يتجزا من العملية التعليمية، ما يكسب الطلاب مهارات البحث والتفكير النقدي وحل المشكلات. يتوقع من الطلاب ادارة وقتهم ومواردهم بفعالية، والمساهمة بفاعلية في المناقشات الصفية والمشاريع الجماعية. هذه البيئة التعليمية تعد الخريجين ليصبحوا متعلمين مدى الحياة وقادرين على التكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. كما تساهم هذه الاستقلالية في تعزيز الثقة بالنفس والاعتماد على الذات لدى الطلاب، ما يمكنهم من تحقيق اهدافهم الاكاديمية والمهنية بنجاح.
التركيز على البحث العلمي: يعد التركيز على البحث العلمي من الركائز الاساسية في نظام التعليم العالي في السويد. تولي الجامعات السويدية اهتماما بالغا للبحث العلمي وتشجع الطلاب على الانخراط فيه، ايمانا منها باهمية البحث في تطوير المعرفة وايجاد حلول للتحديات المجتمعية المتنوعة. كما تشدد الجامعات على اهمية النزاهة والامانة العلمية في جميع مراحل البحث، من جمع البيانات وتحليلهاالى كتابة التقارير والنشر المسؤول للنتائج. يهدف هذاالنهج الى تخريج باحثين مؤهلين قادرين على المساهمة في دفع عجلة التقدم العلمي والتكنولوجي، بالاضافة الى تعزيز ثقافة البحث العلمي بين الطلاب وتنمية مهاراتهم في التفكير النقدي وحل المشكلات. هذا وتوفر الجامعات السويدية بيئة بحثية محفزة ومجهزة باحدث التقنيات والموارد، ما يساعد الطلاب والباحثين على تحقيق اقصى استفادة من امكاناتهم..
التعاون مع سوق العمل: يعد التعاون الوثيق مع سوق العمل سمة مميزة للتعليم العالي في السويد حيث تحرص الجامعات السويدية على بناء شراكات فعالة مع الشركات والمؤسسات في مختلف القطاعات، بهدف توفير فرص تدريب عملي قيمة للطلاب. تساعد هذه الشراكات الطلاب على اكتساب خبرة عملية حقيقية وتطبيق ما تعلموه في بيئة عمل فعلية، ما يساهم في تعزيز فرص توظيفهم بعد التخرج. بالاضافة الى ذلك، يشارك ممثلو سوق العمل في تطوير المناهج والبرامج الدراسية، لضمان مواءمتها مع الاحتياجات المتغيرة لسوق العمل وتزويد الطلاب بالمهارات والكفاءات المطلوبة. هذاالنهج يساهم في سد الفجوة بين التعليم الاكاديمي ومتطلبات سوق العمل، ويعد الخريجين بشكل افضل لمواجهة تحديات سوق العمل المعاصر. كما تشجع بعض الجامعات على انشاء مشاريع مشتركة بين الطلاب والشركات، ما يساهم في خلق بيئة ابتكارية تفيد كلاالطرفين.
التدويل والانفتاح: يتميز نظام التعليم العالي في السويد بروح التدويل والانفتاح على العالم، حيث ترحب الجامعات السويدية بالطلاب الدوليين من جميع انحاء العالم، وتقدم لهم العديد من البرامج الدراسية المتنوعة باللغة الانجليزية، مما يسهل عليهم الدراسة في السويد. يساهم هذاالتنوع في خلق بيئة تعليمية دولية غنية ومحفزة، حيث يلتقي الطلاب من خلفيات ثقافية مختلفة، ويتبادلون الافكار والخبرات، ما يثري تجربتهم التعليمية ويوسع افاقهم. ويتجسد هذاالتدويل في عدة جوانب، منها: ابرام اتفاقيات التبادل الطلابي مع جامعات عالمية مرموقة، مثل برنامج "ايراسموس+" مع دول الاتحاد الاوروبي، الذي يتيح للطلاب الدراسة في الخارج واكتساب خبرات دولية. كما تشارك الجامعات السويدية في مشاريع بحثية دولية واسعة النطاق، مثل المشاركة في ابحاث الاتحاد الاوروبي المتعلقة بالمناخ والطاقة، ما يساهم في تبادل المعرفة وتطوير البحث العلمي. بالاضافة الى ذلك، تنظم الجامعات مؤتمرات دولية تستضيف خبراء وباحثين من جميع انحاء العالم لمناقشة قضايا عالمية ملحة. ولا يقتصر الدعم على ذلك، بل تقدم الجامعات السويدية ايضا خدمات دعم مخصصة للطلاب الدوليين، مثل توفير معلومات عن السكن والتاشيرات والتامين الصحي، وتنظيم فعاليات تعريفية لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع السويدي.
الجودة العالية: يعتبر التعليم العالي في السويد من اعلى المستويات عالميا، حيث تقدم الجامعات برامج دراسية متطورة في مختلف المجالات. وبسبب تركيز التجربة السويدية على البحث العلمي والابتكار، فأن تطوير المناهج الدراسية يتم بشكل مستمر لتلبية متطلبات سوق العمل. كما تعتمد الجامعات السويدية على اساليب تدريس حديثة تشجع التفكير النقدي والتعاون بين الطلاب، إضافة إلى توفير بيئة تعليمية محفزة تشجع على الابداع والتميز. هذا الاهتمام بالجودة ينعكس على الخريجين الذين يتمتعون بمهارات عالية تؤهلهم للمنافسة في سوق العمل العالمي.
التدريب على المهارات والوظائف وحاجة المجتمع وسوق العمل:
المهارات الحياتية: يولي النظام التعليمي السويدي، بما في ذلك التعليم العالي، اهتماما كبيرا بتطوير المهارات الحياتية الاساسية التي تعد الطلاب لمواجهة تحديات الحياة والعمل بنجاح. يركز النظام على تعزيز مهارات التواصل الفعال، سواء الكتابي او الشفوي، من خلال المناقشات الصفية والعروض التقديمية والمشاريع الجماعية. كما يشجع الطلاب على تطوير مهارات حل المشكلات من خلال دراسة الحالات الواقعية والمشاريع البحثية التي تتطلب تحليلا نقديا وايجاد حلول مبتكرة. يعتبر التفكير النقدي والابداع من المهارات الاساسية التي تنمى من خلال تشجيع الطلاب على التساؤل والبحث والتحليل والتفكير خارج الصندوق. بالاضافة الى ذلك، يركز النظام على تعزيز العمل الجماعي من خلال المشاريع الجماعية التي تكسب الطلاب مهارات التعاون والتواصل وادارة الوقت وحل النزاعات. هذه المهارات ضرورية للنجاح في اي مجال عمل وفي الحياة بشكل عام.
المهارات المهنية: تقدم الجامعات السويدية مجموعة واسعة من البرامج الدراسية التي تركز على تطوير المهارات المهنية المطلوبة في سوق العمل. وتقدم الكليات التقنية (Yrkeshögskolan) برامج تدريبية مهنية مكثفة تركز على الجانب العملي والتطبيقي، وتعد الخريجين لدخول سوق العمل مباشرة في مجالات مثل تكنولوجياالمعلومات والهندسة والرعاية الصحية. اماالجامعات التقليدية، فتقدم برامج اكاديمية تدمج الجانب النظري مع التدريب العملي من خلال فترات التدريب (Internship) او المشاريع العملية بالتعاون مع الشركات. على سبيل المثال، تقدم برامج الهندسة في الجامعات السويدية تدريبا عمليا في شركات هندسية رائدة، ما يكسب الطلاب خبرة عملية قيمة تعزز فرص توظيفهم. كما تقدم بعض الجامعات برامج ماجستير مخصصة تركز على تطوير مهارات القيادة والادارة والتسويق، ما يؤهل الخريجين لشغل مناصب ادارية في الشركات والمؤسسات.
التواصل مع سوق العمل: تقيم الجامعات السويدية شراكات وثيقة مع الشركات والمؤسسات في مختلف القطاعات الاقتصادية، بهدف توفير فرص تدريب عملي للطلاب وتطوير برامج دراسية تلبي احتياجات سوق العمل المتغيرة. تشارك الشركات في تصميم المناهج الدراسية، وتقديم المحاضرات وورش العمل، واستضافة الطلاب في فترات التدريب العملي. على سبيل المثال، تقيم الجامعات التقنية شراكات مع شركات تكنولوجياالمعلومات لتوفير فرص تدريب للطلاب في مجال تطوير البرمجيات وتحليل البيانات. كما تنظم الجامعات معارض التوظيف وفعاليات التواصل بين الطلاب والخريجين وممثلي الشركات، ما يساعد الطلاب على بناء شبكة علاقات مهنية والتواصل مع اصحاب العمل المحتملين. تساهم هذه الشراكات في سد الفجوة بين التعليم الاكاديمي ومتطلبات سوق العمل، وتعد الخريجين بشكل افضل لمواجهة تحديات سوق العمل المعاصر.
الاستجابة لحاجة المجتمع: يساهم البحث العلمي في الجامعات السويدية بشكل كبير في ايجاد حلول للتحديات المجتمعية المختلفة. تجري الجامعات ابحاثا متقدمة في مجالات مثل التغير المناخي والطاقة المتجددة والصحة والتكنولوجيا. على سبيل المثال، تجري جامعة اوبسالاابحاثا رائدة في مجال تطوير تقنيات الطاقة الشمسية، بينما تركز جامعة كارولينسكا على الابحاث الطبية المتعلقة بامراض السرطان والقلب والاوعية الدموية. تساهم هذه الابحاث في تطوير حلول مبتكرة للتحديات المجتمعية، مثل تطوير تقنيات جديدة لانتاج الطاقة النظيفة، وتحسين طرق تشخيص وعلاج الامراض، وتطوير تطبيقات تكنولوجية تساهم في تحسين جودة الحياة. كما تشجع الجامعات على تحويل نتائج الابحاث الى منتجات وخدمات تفيد المجتمع والاقتصاد.
الخلاصة:
يتميز التعليم العالي في السويد بالتركيز على البحث العلمي وتشجيع الطلاب على المشاركة الفعالة فيه، مع التاكيد على النزاهة العلمية والاخلاق البحثية. يولي النظام اهتماما خاصا للتعاون الوثيق مع سوق العمل، وذلك لتوفير فرص التدريب العملي القيمة للطلاب وتطوير البرامج الدراسية لتلبية الاحتياجات المتغيرة لسوق العمل. كما يتميز النظام بروح التدويل والانفتاح على العالم، حيث يرحب بالطلاب الدوليين من جميع انحاء العالم ويقدم لهم العديد من البرامج الدراسية المتنوعة باللغة الانجليزية. يساهم البحث العلمي في الجامعات السويدية بشكل فعال في ايجاد حلول للتحديات المجتمعية المختلفة، مثل التغير المناخي والصحة والتكنولوجيا، ما يعكس التزام النظام التعليمي بخدمة المجتمع وتطويره. هذاالتكامل بين البحث والتدريس والتعاون مع المجتمع يجعل من التعليم العالي في السويد نظاما متميزا وفعالا.
نشرت ضمن هذه السلسلة تجارب التعليم في بريطانيا والصين وسنغافورة وكورياالجنوبية وهولندة وفنلندة وكوبا وايرلندة واليابان والمانيا والولايات المتحدة الامريكية.
- بروفسور في الهندسة البيوكيميائية ومستشار مهتم بالتربية والتعليم. جامعة دبلن