بغداد / جنان السراي
في مدرج الجامعة المكتظ بالطلاب وأهاليهم، كان الجميع يترقب بدء الحفل وسط أجواء من الحماس والفرح. مع تشغيل الموسيقى وارتفاع الإيقاعات، علت أصوات التصفيق والهتافات، وبدأت الأجواء تزداد حيوية. لكن فجأة، وقفت مجموعة من الطالبات بشكل واضح ولافت، إحداهن تمسك بيد صديقتها بإحكام.
بدأت المجموعة بالنزول من المدرج بخطوات سريعة، بعد نزولهن وبحسب الفيديو المتداول الذي كتب عليه في تعليق مثبت "لا نشارك في اجواء ك هذه احتراما لعقيدتنا".
في العراق، لم تعد حفلات التخرج مجرد مناسبة للاحتفال بإنجاز أكاديمي، بل أصبحت تثير جدلًا واسعًا في الأوساط الاجتماعية "هذه الفعاليات التي كانت تجسد فرحة التخرج والانتقال إلى مرحلة جديدة من الحياة، أصبحت الآن مسرحًا يعكس التوترات الفكرية في المجتمع العراقي، ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت قد تحولت إلى منصات لتمرير الآيديولوجيات السياسية والدينية" بحسب ما قالته الطالبة الجامعية دانية ثعبان.
فرض الآيديولوجيات
الدكتورة غفران محمد طعمة، أستاذة في جامعة واسط، ترى أن تحولات المجتمع العراقي تُظهر انعكاسًا مباشرًا في حفلات التخرج. “هذه الحفلات، التي كانت سابقًا محطات فرح جماعي، أصبحت اليوم ساحة للصراع الرمزي بين توجهات متعددة. فقد تحولت من مجرد مناسبة للاحتفال بالإنجازات الأكاديمية إلى منصات لترويج الآيديولوجيات الفكرية والسياسية”. وتتابع طعمة قائلة: “قد يكون هذا جزءًا من حرية التعبير، لكن المشكلة تكمن في فرض هذه الآيديولوجيات على الطلاب، الأمر الذي يفرغ المناسبة من معناها الاحتفالي ويحولها إلى ساحة للصراع، سواء كان سياسيًا أو دينيًا”.
وتؤكد طعمة أن هذه التحولات لم تقتصر على حفلات التخرج فقط، بل هي جزء من عملية أوسع شهدتها الحياة العامة في العراق منذ عام 2003، حيث أصبح المجال العام أكثر تسييسًا. “لابد من مراجعة هذه التحولات والتفكير في طرق لخلق بيئة تمنح الطلاب فرصة للاحتفال بالإنجاز دون أن تتحول الفعالية إلى منصات لتمرير الآيديولوجيات”.
فرصة للتعبير أم ساحة للصراع؟
من جهته، يرى الناشط الطلابي مقتدى المياحي، طالب في مرحلة الدراسات العليا في التحليلات المرضية، أن حفلات التخرج تمثل فرصة كبيرة للطلاب للتعبير عن أنفسهم وأفكارهم. “التخرج ليس مجرد نهاية لمرحلة دراسية، بل هو لحظة مهمة في حياة الطالب، وفي كثير من الأحيان يسعى الشباب للتعبير عن أنفسهم بحرية في هذه المناسبة”. ويضيف المياحي: “نحن كطلاب نؤمن أن هذه الحفلات فرصة للإعلان عن هويتنا الفكرية والسياسية، لكن في بعض الأحيان يتجاوز الأمر حدوده، وتتحول الحفلات إلى ساحة صراع بين مختلف الآيديولوجيات”.
ويؤكد المياحي أن أحد أكبر التحديات في هذا السياق هو غياب التنظيم، “الحفلات في بعض الأحيان تخرج عن السيطرة بسبب سوء التنظيم، ما يؤدي إلى انقسامات بين الطلاب أنفسهم. نحتاج إلى معايير واضحة تنظم هذه الفعاليات، حتى نتمكن من التعبير عن أنفسنا بحرية دون أن تتحول المناسبة إلى ساحة للصراعات الفكرية والسياسية”.
أما أصيل الوائلي، ناشط مدني وولي أمر أحد الطلاب في الجامعات العراقية، فيعبر عن قلقه إزاء تحول حفلات التخرج إلى منصات لترويج الآيديولوجيات. “كنت أتمنى أن تكون حفلة تخرج ابني مليئة بالفخر والفرح، لكن ما رأيته كان مختلفًا. كان الحفل مليئًا بالهتافات والشعارات السياسية التي غطت على أي معنى احتفالي”. ويضيف الوائلي: “القلق الذي شعرت به ليس فقط بسبب هذا التحول، بل بسبب الانقسامات التي تثيرها هذه الآيديولوجيات بين الأهالي. كأولياء أمور، نريد أن نحتفل بتخرج أبنائنا في جو من الفرح والتآخي، لكن السياسة تفسد هذا الجو”.
ويشير الوائلي إلى أن هذه التحولات تؤثر على الأهالي من مختلف الخلفيات الاجتماعية والسياسية، “العديد من الأهالي يأتون من خلفيات متنوعة، وتبنّي الجامعة هذه الآيديولوجيات في حفلات التخرج قد يؤدي إلى توتر العلاقات بين الحضور”. ويؤكد أن من الضروري أن تظل هذه المناسبات مفتوحة للجميع بعيدًا عن التوجهات السياسية أو الفكرية. “يجب على الجامعات أن تضع ضوابط واضحة لتنظيم هذه الفعاليات، بحيث تظل مناسبة للجميع دون التسبب في انقسامات بين الأطياف المختلفة”.
استغلال "العقول البيضاء"
في هذا السياق، يرى السكرتير السابق لاتحاد الطلبة العام في جمهورية العراق، علي شغاتي، أن الصراع الآيديولوجي داخل الجامعات يمثل نتيجة طبيعية لتنافس القوى السياسية وسعيها المستمر لتوظيف المؤسسات الأكاديمية لخدمة مصالحها.
وقال شغاتي إن "الجامعات ظلت عصية على الهيمنة السياسية، حيث لم تتمكن القوى المسيطرة على الحكم من فرض نفوذها الكامل على الطلبة والحياة الجامعية".
وأشار إلى أن "هذه القوى حاولت إعادة التفكير بعمق في سبل فرض سيطرتها وأفكارها على الجامعات، سواء من خلال الترغيب أو الترهيب، مستغلةً وزراء يفتقرون إلى المهنية وينتمون إلى خلفيات ميليشياوية، بعيدة كل البعد عن منظومة التعليم الجامعي".
وأضاف شغاتي أن "بعض التصرفات الفردية التي نشهدها ليست مجرد آراء شخصية، بل هي أفعال مدروسة تنفذها هذه الجهات، وهو ما يتضح من خلال الترويج المكثف لها وانتشارها الواسع، ما يؤكد أن الهدف منها هو صبغ المجتمع بلون آيديولوجي معين".
ونوّه بأن "اختيار طريقة الاحتفال والفرح بالتخرج هو شأن خاص بالطلبة، ومن الطبيعي أن تختلف طرق التعبير عن الفرح، نظرًا للتنوع الثقافي والاجتماعي الذي يميز الجامعات". لكنه أوضح أن "امتناع بعض الطلبة عن حضور الحفلات أو رفض الغناء والرقص يُعد أمرًا طبيعيًا يرتبط بطبيعتهم الشخصية".
واستدرك قائلًا: "غير الطبيعي هو إعطاء الأفضلية لمن اختاروا الامتناع عن الاحتفال، ووصم الذين يحتفلون بأوصاف نابية وغير لائقة".
وتابع أن "هذا النهج يعتمد على ما يُعرف بـ"العقول البيضاء" في أدبيات الأحزاب الإسلامية، حيث تلجأ هذه القوى إلى استغلال بعض الطلبة الذين لا يحملون توجهات واضحة، مستفيدة من بساطتهم وفطرتهم السليمة لتنفيذ أجنداتها". وأكد أن "هذه الأساليب أصبحت مكشوفة ولا تنطلي إلا على البسطاء".
وأشار شغاتي إلى أن "القوى الإسلامية تعتبر الفرح وحفلات التخرج تهديدًا لمشروعها في السيطرة على البلاد، وتسعى بوسائل شتى إلى فرض نمط حياة معين داخل الجامعات وخارجها". لكنه استبعد نجاح هذه القوى في تحقيق أهدافها، مؤكدًا أن "مصالح هذه القوى تتعارض دائمًا مع تطلعات الشعب وحرياته، وأنها ستفشل في نهاية المطاف كما فشلت مشاريعها السابقة خلال السنوات الماضية".