د. سعد عزيز عبد الصاحب
Cogito هو العتبة الاولى التي يصطدم بها المتلقي في النص والعنوان ثريا النص و(كوجيتو) لفظ اغريقي بمعنى (افكر) وفيه اشارة لقول الفيلسوف الفرنسي (ديكارت)(انا افكر اذن انا موجود) يحيل العنوان لتصريح (ديكارت) الذي اصبح عنصرا اساسيا في الفلسفة الغربية حيث زعم انه يوفر اساسا معينا للمعرفة في مواجهة الشك الجذري، وفي حين ان المعرفة الاخرى قد تكون من نسج الخيال او الخداع او الخطأ، فهل تطابق عنوان النص مع فواعل العرض السمعية والبصرية بمخرجات المخرج (علي حبيب) ام اننا امام نص جديد اخر مواز لنص الكاتب (منير راضي) وقراءة جديدة للنص، يدخلنا المخرج في بيئة طبية ومناخ (انتي فايروس) من بداية دخولنا باحة بناية منتدى المسرح وصولا الى صالة العرض، يشابه ما مر علينا في فترة وباء (كورونا) اذن نحن في فضاء مستشفى بايولوجي فايروسي واضح ذلك في ضوء ما لبسته الشخصيات المساعدة من ازياء وقائية واقنعة بيضاء تصلح لمصحات ومستشفيات فايروسية بعينها وانتشار روائح المعقمات التي ترشها الشخصيات الصامتة من خلال مضخات متحركة تؤكد تلك البيئة الجرثومية، يستعرض العرض شخوص سلطوية تأريخية كـ(كاليغولا)و(نيرون)و(هتلر) داخل هذا الفضاء المعفر برائحة المعقمات، بمقولات وتداعيات الشخصيات مع ذاتها او مع الشخوص التي يتوالى ظهورها (السكرتير) او (الكاهن) او(ترسياس) والراقصة الجريئة التي تكشف وتزيح الستار عن شخوص الطغاة وكأننا في ثلاجة الطب العدلي لما تكلل به المكان من ملاآت بيضاء شكلت هارموني العرض ووحدته البصرية بتأثيثات سينوغرافية تمثلت ببيانو ابيض مليئ بالماء وكرسي ابيض وطاولة بيضاء ومرايا ثبتت بأطارات متحركة، وشخصية (غروتسكية) صامتة من قصار القامة لبست رأس حصان في اشارة بارعة لهروب معظم الدكتاتوريات من مواجهة لحظتها النهائية وسقوطها الدراماتيكي في وحل الهزيمة او حسب قول (ريتشارد) الشكسبيري: (من يبادل مملكتي بجواد) ممثلا ايضا دلالة (ايروتيكية) باطنية تخص الحلم السوريالي للطغاة وشبقهم جسده العرض بعلاقة الحب بين الدكتاتور وحصانه، ولكن يبرز التعارض المنطقي بين الشكل البايولوجي المرضي الاشهاري للمكان وبين اننا في مستشفى للامراض العقلية وهذا ما تشير اليه نهاية العرض التي تتعارض كما اسلفت مع بدايته التي انفتحت على مسائلات الوعي (انا افكر اذن انا موجود) واذا بالعرض يذهب في نهايته الى مسارات باطنية وهذيانية مفاجئة تقودنا الى لاوعي الشخصيات ودهاليز لوثتها العقلية، الشبيهة في تشكلاتها الاخراجية مع عرض محلي شاهدناه منذ فترة قريبة حتى في حركة الممثلة التي تحولت بقدرة قادر الى طبيبة تشير لمنفذ الاضاءة ان يطفئ مسارات ضوءه منهيا العرض، اما على صعيد الاداء التمثيلي فقد أجاد الممثل (طه المشهداني) في انتاج تحولات ادائية ولعب صوتي وجسدي لشخوص الدكتاتوريات اذ عمل على انساق صوتية تحيل الى موتيفات (خنثية) لشخصية الدكتاتور (نيرون) و(كاليغولا) لادانتها والاطاحة بها، او تشخيص شخصية هستيرية خطابية كما عمل في تجسيد شخصية (هتلر) وعلاقته الايروتيكية بعشيقته (ايفا براون) وكان يمكن ان تمثل هذه العلاقة (ثيمة) درامية جديدة تضاف للمخرج ووعيه لو امكنه تجسيدها بشبكة علاقات جديدة على مستوى نص العرض لاضافت الكثير للمتن الحكائي للعرض، الا ان العرض اقتصر على رقصة جميلة ورومانسية بين هتلر وعشيقته المنتحرة، ويمكن ان نتوغل في الشخوص الاخرى للعرض من منطلقات اسنادية فالشخصية التي مثلها الممثل (هاشم الدفاعي) هي شخصية المساعد والخادم (خادم العرض) الذي يسّير امور المكان يقود الحدث مطيحا به منذرا بالخطر المحدق انه (الجوكر) في لعبة الورق، انه شخصية تنفتح نحو السرية والذاتية تطمح للوصول الى السلطة لكنها تخفق في ذلك استطاع (الدفاعي) ان يلج الى مكامنها فاكا غلالتها التجسيدية، وتبقى (الميديا) حسب رؤية العرض هي المتحكم الوحيد بالسلطات زوالها وبقاءها على ما يبدو وشاهدناه اذ تنفتح في نهاية العرض حقيبة سوداء يخرج منها (مايك) يسلم الى الدكتاتور الذي يصم اسماعنا خطبا جوفاء وهذر لا نفع فيه ولا امل، تبقى شخصية الممثل (مصطفى جوقي) مبهمة وملتبسة وعصية على التأويل وكأنها مقحمة على مسارات وانساق العرض الدرامية، فما الضير لو اقتصر العرض على شخصيتي الدكتاتور وخادمه وما الاضافة الدرامية للحبكة التي اضافتها تلك الشخصية وذلك الممثل الذي اطاح بالملفوظ اللغوي للنص لحنا واخطاءا فادحة اضافة لضعف صوته وحضوره، ومن المهم الاشارة الى الحضور البهي والجرئ للممثلة (نور العزاوي) وهي ترقص بمرونة وخفة اضافت جوانب جمالية ايمائية واضحة للعرض، والحضور اللافت للممثل (تراث الاصيل) والممثلون الشباب للجوقة (ابراهيم ضاري ويونس مروان ورسول اياد وحسن شيلبي ومصطفى اسامة) والموسيقى والمؤثرات لحسين زنكنه والضوء بتصميم وتنفيذ المبدع (عباس قاسم) اخيرا مثل العرض تجربة شبابية حري التوقف عندها وتأملها والشد على ايدي صناعها في انتاج فواعل جديدة للحداثة في مسرحنا العراقي المعاصر.
كوجيتو مساءلة الطغاة
نشر في: 15 يناير, 2025: 12:01 ص