ترجمة: عدوية الهلالي
تعتبر صوره شهادات مذهلة على سياسة التمييز العنصري اللاإنسانية في جنوب أفريقيا.لقد أخذه نظام الفصل العنصري بعيدًا عن وطنه،جنوب أفريقيا، لكن المصور إرنست كول، مؤلف الكتاب الشهير"بيت العبودية " (1967) الذي ندد فيه بنظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، كان يرغب دائماً في العودة إلى وطنه. هذا ما يرويه المخرج راؤول بيك في أحدث فيلم وثائقي له بعنوان "إرنست كول، المصور الفوتوغرافي"، والذي عرض في دور العرض السينمائي في مطلع عام 2025.. واستنادًا إلى اكتشاف أكثر من 60 ألف صورة فوتوغرافية وسلبية للفنان في أحد البنوك السويدية في عام 2017، نسج بيك قصة قوية وبارعة.
كان إرنست كول مصورًا علم نفسه بنفسه واكتشف التصوير الفوتوغرافي في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، وقرر توثيق الحياة اليومية في جنوب أفريقيا على غرار ما فعله كارتييه بريسون في فيلم "شعب موسكو". لكن العيش هناك يعني أن نشهد نظاماً عنصرياً يُعامل فيه السود وكأنهم دون البشر على أرضهم. وبينما يواصل كول مسيرته، يجمع الأدلة على الوحشية التي تتكشف في بلاده، وتضطره المخاطر التي يتعرض لها، على سبيل المثال، إلى التقاط الصور أثناء المشي. وفي عام 1966، انتهى به الأمر إلى الذهاب إلى المنفى تحت أنظار النظام. واستقر كول بعد ذلك في الولايات المتحدة.
وكما فعل مع الكاتب والناشط الأمريكي من أصل أفريقي جيمس بالدوين، مستخدمًا كلماته لتصويره في كتاب "أنا لست زنجيًا"، يستخدم راؤول بيك هنا صور إرنست كول، وخاصة تلك التي كان وجودها غير معروف.. ويُظهر الفنانان، على الرغم من فارق السنوات بينهما، أن الإعداد هو المفتاح عند حمل العدسة، سواء كانت الصورة ثابتة أو متحركة، إذ تسمح صور الأشخاص المجهولين وصور إرنست كول بالابيض والأسود وبالالوان لراؤول بيك بإعادة بناء الرحلة غير المنتظمة للفنان الجنوب أفريقي من خلال الشهادات والأرشيفات. وفي الأخير نكتشف الحياة اليومية للناس، والحياة السياسية في جنوب أفريقيا وأميركا، ونيلسون مانديلا، والسياسيين الجنوب أفريقيين والأجانب، ووجوه النضال من أجل الحقوق المدنية في الولايات المتحدة. وهي أيضًا قصة عن أمريكا في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، والتي كتبها المصور، الذي تم نسيانه بعد ذلك، من خلال صوره الفوتوغرافية.
وفي الولايات المتحدة، حيث ظن كول أنه نجا من الفصل العنصري، واجه مرة أخرى الوضع البائس الذي يعيشه السود. ويكشف مقاله المصوّر عن الأميركيين من أصل أفريقي في الريف الجنوبي عن جانب آخر لأميركا، حيث يخشى من القتل، بينما في جنوب أفريقيا كان يخشى فقط من الاعتقال حيث تصبح هذه الأرض، أرض الحرية، كما تظهر في صوره للأزواج المختلطين - وهو أمر لا يمكن تصوره في جنوب أفريقيا - مسرحًا لكل خيبات الأمل، بما في ذلك خيبة الأمل في المنفى.
"أنا مشتاق إلى الوطن ولا أستطيع العودة"، هذا ما يقوله الراوي إرنست كول، بصوت راؤول بيك باللغة الفرنسية. ويحكي الفنان الجنوب أفريقي أيضًا قصته بكلماته المأخوذة من كتاباته والشهادات التي جمعها بيك مشيرا إلى الحنين إلى الوطن الذي قتل العديد من مواطنيه الذين، مثله، جاؤوا بحثاً عن ملجأ في الولايات المتحدة وذلك الألم الذي استطاع البعض التغلب عليه، مثل المغنية ميريام ماكيبا التي نددت بالتمييز العنصري على المسارح في جميع أنحاء العالم وفي الأمم المتحدة.
ويستذكر المصور إرنست كول موقف الانتظار والترقب الذي تبناه المجتمع الدولي تجاه جنوب أفريقيا. على سبيل المثال، عندما كان الجدل لا يزال قائماً في منتصف ثمانينيات القرن العشرين حول العقوبات التي يتعين فرضها على دولة تلزم غالبية مواطنيها بارتداء "جواز سفر مرجعي" حول أعناقهم، مثل الحيوانات، من أجل الأمل في السفر إلى الخارج، كان من غير الممكن أن يكون هناك أي أثر للعقوبات والسفر في سلام تام. في ذلك الوقت، كان يتم تشبيه السود بالسلع عندما كان يُكتب على إحدى اللافتات "غير الأوروبيين والبضائع" التي كانت تُعرف بها جنوب أفريقيا أثناء فترة التمييز العنصري. وهو النظام الذي وصفه رئيس الوزراء هندريك فيروورد آنذاك بأنه "سياسة حسن الجوار". وكان اغتياله بمثابة انطلاقة لمسيرة كول المهنية في الولايات المتحدة: فقد أضافت الأخبار قيمة إلى صوره التي رفضتها مجلة شتيرن قبل أن تغير رأيها.
وفي أفريقيا، وفي أوروبا، وخاصة في السويد حيث ذهب لأول مرة في عام 1968، أو في أمريكا، طارد الفصل العنصري إرنست كول مثل رائحة كريهة التصقت بالجلد. وقتها قال المصور كشعار للمقاومة "إن الإنسان كله لا يعيش تجربة واحدة فقط". ويقدم الفيلم الوثائقي لراؤول بيك تأملاً غير متوقع في عذابات المنفى من خلال صورة أحد أولئك الذين انتفضوا ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
ولم يشك كول أبدًا في أن بلاده ستصبح حرة يومًا ما. لقد أتى إيمانه، الذي شاركه فيه العديد من مواطنيه، بثماره. لقد كانت تضحياتهم تستحق العناء، وربما كان هذا الإدراك هو الذي خفف أخيرًا من آلامهم بعد وفاتهم فقد توفي إرنست ليفي تسولواني كول، الذي ولد في 21 آذار 1940 في بريتوريا، عن عمر يناهز 49 عامًا في نيويورك بسبب سرطان البنكرياس، بعد أيام قليلة من إطلاق سراح نيلسون مانديلا في 11 شباط 1990. وأصبح ماديبا، كما يطلق عليه الجنوب أفريقيون، زعيم جنوب أفريقيا الأسبق، أول رئيس أسود لأمة قوس قزح.
"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي
نشر في: 16 يناير, 2025: 12:01 ص