TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بين المتطلبات الأكاديمية والتحديات المهنية تعقيدات تطبيق تعليمات الترقيات العلمية

بين المتطلبات الأكاديمية والتحديات المهنية تعقيدات تطبيق تعليمات الترقيات العلمية

نشر في: 19 يناير, 2025: 12:01 ص

د. طلال ناظم الزهيري

لا شك أن جودة التعليم تعكس اهتمام الدول بمؤسساتها التعليمية وكفاءة مخرجاتها وهي كفاءة لا تقتصر آثارها على الجانب الأكاديمي فحسب بل تمتد إلى جميع قطاعات الحياة مثل الاقتصاد الصحة الزراعة والهندسة. ومع ذلك يُطرح تساؤل جوهري حول ما إذا كانت التصنيفات العالمية تُعد المقياس الحقيقي لجودة التعليم.؟ وهنا يمكن القول ان هذه التصنيفات تعتمد على مؤشرات موضوعية مثل الأنشطة البحثية وعدد الاستشهادات لكنها لا تعكس بالضرورة جودة التعليم أو تحقيق احتياجات المجتمع. اذ تكمن المشكلة في فهم صناع القرار لهذه التصنيفات وأهدافها. ففي دول مثل باكستان والهند وحتى مصر تُستخدم التصنيفات كعامل مساعد في تصدير الكفاءات العلمية الى دول اخرى من خلال اهميتها في تحسين فرص المنافسة. بينما تعتمد دول أخرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على جامعاتها الخاصة لجذب الطلاب الأجانب وزيادة أرباحها من الرسوم الدراسية وهي أهداف بعيدة عن أولويات وزارة التعليم العالي العراقية. بالتالي فان محاولات الجامعات العراقية لتحقيق مراكز متقدمة في التصنيفات العالمية تبدو محدودة الجدوى حيث تركز السياسات الأخيرة على تعزيز النشر في مجلات مفهرسة ضمن قواعد بيانات عالمية مثل Scopus وClarivate بالإضافة إلى اشتراط تحقيق درجة معينة في مؤشر هيرش [H-INDEX] كأحد معايير الترقية العلمية.
ورغم أن هذه الإجراءات اهدافها المعلنة تدعو إلى تحسين جودة البحث العلمي إلا ان الواقع هو الرغبة في تحسين مراتب الجامعات في التصنيفات العالمية لكنها بدل ان تحقق ذلك ساعدت على تنامي ظواهر سلبية مثل الانتحال العلمي والتلاعب بالاستشهادات لتحقيق متطلبات شكلية مما أدى إلى إضعاف قيمة الأبحاث وزيادة الضغوط النفسية على التدريسيين نتيجة الأعباء الإدارية والتعليمية المتراكمة عليهم. وهنا لنا وقفة مع شرط h-index في تعليمات الترقيات العلمية الجديدة التي وضعتها الجامعات العراقية اذ يُطلب من الأساتذة تحقيق مؤشر هيرش بقيمة لا تقل عن 6 للتخصصات الإنسانية و8 للتخصصات العلمية على أن يكون هذا المؤشر مستخرجًا من قاعدة بيانات سكوباس. هذا الشرط يثير العديد من التحديات التي تجعل تحقيقه أمرًا صعبًا بالنسبة للأساتذة خاصة في ظل السياقات الأكاديمية الحالية. مؤشر هيرش يعتمد على مبدأ بسيط ولكنه معقد في تحقيقه إذ يتطلب أن يكون لدى الباحث عدد معين من الأبحاث التي حصل كل منها على نفس العدد من الاستشهادات على الأقل. وبالتالي فإن الوصول إلى مؤشر 6 يعني أن على الباحث أن ينشر 6 أبحاث في مجلات مفهرسة في سكوباس و يحصل كل منها على 6 استشهادات كحد أدنى وهو أمر يحتاج إلى تحقيق توازن بين الكم والجودة في الإنتاج البحثي. ان تعقيد هذا الشرط يتضاعف بسبب الاعتماد على قاعدة بيانات سكوباس بدلًا من غوغل سكولر إذ إن سكوباس تُعرف بصرامتها وقيودها في تصنيف المجلات. عدد المجلات المفهرسة فيها محدود لا سيما بالنسبة للمجلات العراقية أو الإقليمية ما يضيق الخيارات أمام الباحثين. إضافة إلى ذلك فإن تكلفة النشر في هذه المجلات غالبًا ما تكون مرتفعة مما يضع عبئًا ماليًا إضافيًا على الأساتذة إلى جانب تعقيد عملية مراجعة الأبحاث التي تتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين وتؤدي إلى بطء عملية النشر.
في السياق المحلي تعاني البيئة الأكاديمية العراقية من ضعف ثقافة الاستشهاد بالأبحاث ما يعيق حصول الأبحاث المنشورة محليًا على عدد كافٍ من الاستشهادات. هذه المشكلة أكثر وضوحًا في التخصصات الإنسانية حيث تركز الأبحاث غالبًا على قضايا محلية لا تحظى باهتمام واسع عالميًا. كما أن متطلبات النشر باللغة الإنجليزية تضيف تحديًا آخر حيث أن العديد من أساتذة التخصصات الإنسانية يعتمدون على اللغة العربية في أبحاثهم. فضلا عن أن طبيعة الأبحاث في هذا المجال تعتمد على منهجيات تفسيرية ونوعية تجعل الاستشهادات أقل شيوعًا مقارنة بالتخصصات العلمية التي تعتمد على بيانات تجريبية ومنهجيات موحدة. هذا التفاوت يجعل تحقيق المؤشر المطلوب في العلوم الإنسانية أكثر صعوبة إذ لا تتوافر الفرص نفسها لتحقيق استشهادات متكررة. إلى جانب ذلك يواجه الأساتذة الجامعيون أعباء تدريسية وإدارية كبيرة تقلل من الوقت المخصص لإجراء أبحاث ذات جودة عالية. هذه الضغوط تجعل التركيز على النشر العلمي تحديًا إضافيًا خاصة مع غياب الدعم المؤسسي الكافي لتوفير التمويل أو تسهيل الوصول إلى قواعد البيانات العالمية. في ظل هذه الظروف يصبح التركيز على مؤشر هيرش كمقياس أساسي للترقية غير عادل لأنه يتجاهل السياقات المحلية والاختلافات بين التخصصات. من جهة أخرى يؤدي التركيز المفرط على تحقيق المؤشر إلى بروز ظواهر سلبية في النظام الأكاديمي مثل ظاهرة التلاعب بالاستشهادات أو إنشاء شبكات استشهاد متبادل بين الباحثين ما يضر بمصداقية البحث العلمي. كما أن هذا النهج يغفل الجوانب الأكاديمية الأخرى التي لا تقل أهمية مثل جودة التدريس الإشراف على طلبة الدراسات العليا والمساهمة في خدمة المجتمع وهي أدوار جوهرية للأستاذ الجامعي لا يمكن قياسها بمؤشر رقمي.
في النهاية فرض شرط مؤشر هيرش بقيم محددة كمعيار أساسي للترقيات العلمية في الجامعات العراقية يضيف أعباء جديدة على الأساتذة دون أن يضمن تحسين جودة البحث العلمي. هذا التوجه يحتاج إلى إعادة تقييم يأخذ في الاعتبار الواقع المحلي وتوفر بدائل تدعم الأكاديميين في تحقيق أهداف تعليمية وبحثية أكثر شمولًا واستدامة. وفي هذا السياق يمكن اقتراح خطوات عملية لتحسين مراتب الجامعات العراقية في التصنيفات العالمية: منها إعادة هيكلة الجامعات وتحويلها إلى مؤسسات تخصصية لتعزيز الكفاءة واستثمار الموارد بشكل أمثل واستقطاب الطلاب الأجانب من خلال برامج زمالات وتسهيلات جاذبة وتوسيع برامج التبادل الأكاديمي مع الجامعات العالمية. كما يمكن تعزيز جودة الدراسات العليا من خلال مراجعة سياسات القبول والترقيات ودعم المجلات المحلية لتكون منافسة عالميًا إلى جانب التحول الرقمي لتعزيز الوصول الحر للمحتوى التعليمي وتقديم جوائز مادية ومعنوية للأساتذة المتميزين وتنفيذ شراكات فعالة مع الجامعات العالمية وفرض ضوابط جديدة للقبول تضمن جودة المخرجات وزيادة تنافسية الكليات الأهلية. على اساس الجودة والرصانة. إن تحسين التعليم العالي في العراق لا يمكن أن يتحقق بمجرد السعي لتحقيق مراتب في التصنيفات العالمية بل يتطلب رؤية شاملة تركز على بناء نظام تعليمي يحقق جودة حقيقية ومستدامة. هذه الرؤية يجب أن تعزز البحث العلمي تدعم التدريسيين وتوفر بيئة تعليمية متوازنة تلبي احتياجات المجتمع وتسهم في بناء المعرفة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

كيف يمكنناالاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمود الثامن: دولة العشائر

العمود الثامن: رئيستهم ورئيسنا !!

العمود الثامن: خواطر من بلاد العمل

العمود الثامن: ليلة نوبلية في دبي

 علي حسين كان في العاشرة من عمره عندما تملكه احساس ان مدينته دبي يمكن لها أن تُصبح الأولى في هذا العالم المترامي الاطراف ، كان ذلك عام 1949، وقف مذهولاً وسط مطار هيثرو...
علي حسين

قناديل: دع السياسة للزاعقين بصوت عالٍ

 لطفية الدليمي أظنُّ أنّ سقراط حاد عن الصواب عندما وصف الانسان بأنه كائن سياسيٌ بطبعه. ربما كان مصيباً في زمانه؛ أما اليوم فالعكس هو الصواب، أو لو شئتُ الدقّة فسأقول: كلّما زاد انغمار...
لطفية الدليمي

استلاب النخب العراقية وتواطؤ السلطة

أحمد حسن النخب العراقية، التي يفترض بها أن تكون الحامل الرئيسي لروح النقد ورافعة التغيير، انزلقت إلى هاوية الانحراف الأخلاقي والفكري، متحوّلة إلى أداة خاضعة تخدم الأقوياء في مشهد سياسي واجتماعي تحكمه الفوضى. مفهوم...
أحمد حسن

بين المتطلبات الأكاديمية والتحديات المهنية تعقيدات تطبيق تعليمات الترقيات العلمية

د. طلال ناظم الزهيري لا شك أن جودة التعليم تعكس اهتمام الدول بمؤسساتها التعليمية وكفاءة مخرجاتها وهي كفاءة لا تقتصر آثارها على الجانب الأكاديمي فحسب بل تمتد إلى جميع قطاعات الحياة مثل الاقتصاد الصحة...
د. طلال ناظم الزهيري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram