TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > استلاب النخب العراقية وتواطؤ السلطة

استلاب النخب العراقية وتواطؤ السلطة

نشر في: 19 يناير, 2025: 12:02 ص

أحمد حسن

النخب العراقية، التي يفترض بها أن تكون الحامل الرئيسي لروح النقد ورافعة التغيير، انزلقت إلى هاوية الانحراف الأخلاقي والفكري، متحوّلة إلى أداة خاضعة تخدم الأقوياء في مشهد سياسي واجتماعي تحكمه الفوضى. مفهوم النخبة، الذي ارتبط تاريخيًا بالإبداع الفكري والإنتاج الثقافي والنقد الأخلاقي، انحرف عن مساره، ليصبح معبّرًا عن شبكة طفيلية متواطئة مع بنية السلطة. في العراق، الأقوياء لا يتجسدون في سلطة واحدة، بل هم طيف متنوع من الفاعلين؛ رؤساء الأحزاب وقادة الفصائل وزعماء العشائر، رجال الأعمال الجدد الذين بنوا ثرواتهم على أنقاض الدولة، والقوى الإقليمية والدولية التي تُهيمن عبر وكلائها المحليين، مما يُحول البلاد إلى ساحة صراع قوى تسعى إلى الهيمنة بدلًا من التنمية.
رؤساء الأحزاب السياسية يحتكرون الموارد عبر نظام المحاصصة الذي يعيد إنتاج الاستغلال باسم التوافق الوطني. هؤلاء ليسوا سوى وكلاء لجهاز سلطوي يعمل على إدامة السيطرة، حيث تسهم الجماعات المسلحة في ترسيخ حالة العنف بوصفها أداة للهيمنة الاقتصادية والأمنية. في هذا السياق، تبرز طبقة جديدة من رجال الأعمال الذين يجنون الأرباح من خلال عقود الفساد المتواطئة مع الدولة، محولين الاقتصاد إلى منظومة مغلقة تُعزز اللامساواة. وعلى المستوى الإقليمي والدولي، تُمارس القوى الكبرى دورًا مزدوجًا بين التدخل العنيف والدبلوماسية الخفية، مما يضع السيادة العراقية في حالة دائمة من التآكل.
النخب الطفيلية، سواء أكانت إعلامية أم أكاديمية أم دينية أو مثقفين، انحرفت عن وظائفها الاجتماعية لتتحول إلى أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة. الإعلاميون، بدلاً من أن يكونوا مرآةً للمجتمع وضوءًا كاشفًا للفساد، أصبحوا صوت السلطة والاقوياء، مُضخمين الخطاب الرسمي على حساب هموم المواطن، حيث يتم تزييف الأولويات وتحويل الأزمات البنيوية—كالفقر والبطالة والانهيار البيئي—إلى مسائل سطحية لا تمس جوهر المعضلة. الأكاديميون، الذين يُفترض أن يكونوا عقل المجتمع النقدي، انخرطوا في خطاب عقلاني زائف يبرر آليات القمع تحت شعارات فضفاضة مثل "العقلانية السياسية" و"ضرورات المرحلة". أما رجال الدين، فقد تخلوا عن الرسالة الأخلاقية للدين، ليصبحوا أدوات تقديس للسلطة. النصوص الدينية أُعيد تأويلها لتبرير القمع والانتهاكات، حيث يجري تسويق الاستبداد كضرورة لتحقيق الاستقرار، في عملية تُجسد ما وصفه هابرماس بـ"تسليع العقل".
وسائل الإعلام، بدلاً من أن تكون أداة للتحرر والتنوير، أصبحت أذرعًا تُعيد إنتاج خطاب الهيمنة، فتخلق وعيًا زائفًا يُضفي الشرعية على الاستغلال. الصور الزائفة التي تصنعها النخب، بما في ذلك مظاهر الرفاه الكاذب من سيارات فارهة وملابس فاخرة وقصات شعر "هوليوودية"، ليست مجرد انعكاس للفساد، بل تجسيد لعقل أداتي يُقدس المظاهر على حساب القيم. وكما أشار أدورنو، فإن هذا التشيؤ يحوّل الإنسان إلى كائن مستلب، فاقد للقدرة على إدراك تناقضات الواقع، حيث يتم التلاعب بالعقل العام ليتقبل الانتهاكات بوصفها حالة طبيعية.
إن تحالف النخب مع الأقوياء لا يعمق فقط استلاب المجتمع، بل يُعيد إنتاج منظومة القمع بشكل أكثر تطورًا. في هذه المنظومة، يبدو القمع ضرورة، والهيمنة أمرًا حتميًا، مما يهدد بتفكيك البنية الاجتماعية بأكملها. وكما أكد هابرماس، فإن الأنظمة التي تفقد قاعدتها الأخلاقية والاجتماعية لا يمكنها البقاء سوى عبر القوة، وهي بذلك تسير نحو انهيارها الذاتي.
مواجهة هذا الواقع تتطلب نهضة معرفية وثقافية تتجاوز السطحيات وتحفر عميقًا في الأسس التي يقوم عليها المجتمع. هذه النهضة يجب أن تستعيد القدرة النقدية للنخب، التي كانت في الماضي الحامل الرئيس للتغيير والتنوير، لتمثل اليوم الصوت الأكثر وضوحًا في محاربة الاستلاب الثقافي والاجتماعي الذي يعيشه العراق. إذ لا يمكن للنخب أن تواصل أداء دورها الطفيلي، الذي يغذي الاستبداد ويعزز الاستغلال، دون أن تتخلص من هذه الوضعية المستلبة، فكما أكد كل من أدورنو وماركيوز في إطار مدرسة فرانكفورت النقدية، التغيير الحقيقي لا يبدأ إلا من داخل الوعي، الذي يتحقق فقط عندما يتبنى النقد الراديكالي القادر على مسائلة الأنظمة الفكرية والاجتماعية التي تديم الهيمنة.
النخب العراقية يجب أن تتحرر من كفاءات السلطة التي صارت تفرض نفسها على المجتمع باعتبارها السمة المهيمنة للوجود الاجتماعي والسياسي. فالتبعية للأقوياء ومواءمة مصالحهم أظهرت أنها لا تقدم أي تغيير حقيقي، بل تقف عقبة في وجه تحرر الوعي الاجتماعي. إذا كانت النخب تنبثق من الشروط الاجتماعية والإيديولوجية التي تُشكّل الوعي العام، فإن انغماسها في أدوار تافهة وخادمة لمنظومات السلطة يشكل نكسة خطيرة في عملية إعادة بناء المجتمع العراقي. لا يمكن للوعي العراقي أن يتحرر إلا عندما يتجاوز التوجه السائد في تقديم النخب كمجرد أدوات لخدمة القوى الكبرى. إن استعادة النخب لدورها كمنتجة للمعرفة، والوعي النقدي، والمقاومة الفعالة ضد الاستلاب، هو التحدي الرئيسي الذي يجب أن يواجهه المجتمع العراقي اليوم.
إن تطور الوعي النقدي لا يتم إلا من خلال عملية نقدية عميقة تتناول جذور الأزمة التي نعيشها، وتهدف إلى الكشف عن التناقضات البنيوية في النظام الاجتماعي والسياسي. الوعي النقدي، كما ترى مدرسة فرانكفورت، ليس مجرد وعي سطحي للقضايا الاجتماعية، بل هو وعي يتفجر من الاحتكاك المباشر مع البنية الإيديولوجية التي تؤطر الواقع، وهو الوعي الذي يتخذ من الفكر النقدي سلاحًا ضد القيم المادية والبيروقراطية التي تحول الإنسان إلى مجرد أداة في نظام يعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي والطبقي. لن يتسنى للعراق أن يتجاوز هذه الأزمة إلا عندما يستعيد وعيه المستلب، وتعود النخب إلى مكانتها الأصلية كقوى مبدعة قادرة على التفكير خارج الإطار الذي فرضته الهيمنة.
التحرر من العقل الأداتي، الذي يسعى إلى تبرير كل شيء باسم الاستقرار والعقلانية، يمثل الخطوة الأولى نحو تأسيس مجتمع جديد. العقل الأداتي هو الذي يختزل الإنسان إلى أداة لتحقيق أغراض مادية قصيرة الأمد، دون أن يأخذ بعين الاعتبار القيم الإنسانية العليا. هذا العقل، الذي هيمن على الفضاء العام في العراق، هو الذي ساهم في تفشي الفساد والظلم، وجعل من الشعب مجرد قطيع مستلب يخضع لتسلط الأقوياء. إعادة بناء العقل النقدي هي الطريق الذي سيؤدي إلى الانعتاق من هذه الهيمنة، إذ يصبح الإنسان في هذا السياق قادرًا على مقاومة التشيؤ، وتحقيق العدالة الاجتماعية. هذه العدالة، التي يجب أن تشكل الأساس الجديد للعلاقات الاجتماعية، ستكون بمثابة الرد القوي على السلطة التي تمارس الهيمنة باسم النظام أو الاستقرار.
وإن استعادة الاعتبار للإنسان وقيمته تتطلب إصلاحًا جذريًا في الفهم الثقافي والاجتماعي، بحيث يصبح الوعي الجمعي مركزًا لفعل مقاوم يعيد بناء المجتمع على أسس من العدالة والمساواة. المجتمع الذي يسعى إلى التحرر لا يمكنه أن يبقى أسير العقل الأداتي أو واقع الاستلاب الفكري. التغيير يبدأ من الأسئلة الكبرى التي تطرحها النخب على أنفسها: من نحن؟ وإلى أين نتجه؟ وما هي القيم التي ينبغي أن تحكم علاقاتنا الاجتماعية والسياسية؟ الإجابة على هذه الأسئلة تفتح الباب أمام نقاش أوسع حول المستقبل الذي يمكن أن يبنيه العراق، حيث لا تكون النخب مجرد أدوات في يد الأقوياء، بل قوة نقدية قادرة على إعادة تشكيل الواقع الاجتماعي والسياسي بعيدًا عن الاستغلال والتلاعب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

كيف يمكنناالاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمود الثامن: دولة العشائر

العمود الثامن: رئيستهم ورئيسنا !!

العمود الثامن: خواطر من بلاد العمل

العمود الثامن: ليلة نوبلية في دبي

 علي حسين كان في العاشرة من عمره عندما تملكه احساس ان مدينته دبي يمكن لها أن تُصبح الأولى في هذا العالم المترامي الاطراف ، كان ذلك عام 1949، وقف مذهولاً وسط مطار هيثرو...
علي حسين

قناديل: دع السياسة للزاعقين بصوت عالٍ

 لطفية الدليمي أظنُّ أنّ سقراط حاد عن الصواب عندما وصف الانسان بأنه كائن سياسيٌ بطبعه. ربما كان مصيباً في زمانه؛ أما اليوم فالعكس هو الصواب، أو لو شئتُ الدقّة فسأقول: كلّما زاد انغمار...
لطفية الدليمي

استلاب النخب العراقية وتواطؤ السلطة

أحمد حسن النخب العراقية، التي يفترض بها أن تكون الحامل الرئيسي لروح النقد ورافعة التغيير، انزلقت إلى هاوية الانحراف الأخلاقي والفكري، متحوّلة إلى أداة خاضعة تخدم الأقوياء في مشهد سياسي واجتماعي تحكمه الفوضى. مفهوم...
أحمد حسن

بين المتطلبات الأكاديمية والتحديات المهنية تعقيدات تطبيق تعليمات الترقيات العلمية

د. طلال ناظم الزهيري لا شك أن جودة التعليم تعكس اهتمام الدول بمؤسساتها التعليمية وكفاءة مخرجاتها وهي كفاءة لا تقتصر آثارها على الجانب الأكاديمي فحسب بل تمتد إلى جميع قطاعات الحياة مثل الاقتصاد الصحة...
د. طلال ناظم الزهيري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram