TOP

جريدة المدى > عام > تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

نشر في: 19 يناير, 2025: 12:03 ص

د. نادية هناوي
إنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان الأخذ كثيرًا أو كانت الإضافة قليلة. وتبقى الأولوية في التأثير محسوبة لتلك الآداب التي هي أقدم من غيرها في حين تكون الأولوية في التأثر للآداب الحديثة المنتمية إلى الأمم والحضارات الناشئة التي تملك مقومات ثقافية تجعلها جاذبة ونافذة ومستقطبة للآداب الأقدم، مهيمنة على عناصر تميزها.
وإذا كانت النظريات النقدية الحديثة وليدة العقل الغربي، فإن ذلك الحال ناجم عن النزعة التجريدية في فكر ذلك العقل. أما الإبداع في الفن والأدب فيبقى حرا ومفتوحا لا ينطبق على أدب الغرب وحده لأن هذا الأدب ليس نقيا مغلقا ولا هو تطور من تلقاء نفسه، بل هو حصيلة تفاعل تاريخي مع آداب الشرق القديم. وما كان للرواية أن تكون جنسا أدبيا لولا حصيلة هذا التفاعل بين الآداب قديمها وحديثها شرقيها وغربيها والذي بلغ أوجه في القرن التاسع عشر.
ولا نغالي إذا قلنا إن كثيرا من التيارات والتحولات التي طرأت على السرد الأوروبي الحديث كانت تأتي من طرفين: الأول هو الإفادة من العلوم الحديثة وتطوراتها المتسارعة، والطرف الآخر هو استعادة أساليب السرد القديم والعمل على تطويرها موضوعيا وتقانيا. وإذا كان الطرف الأول قد اتضحت صوره في أغلب روايات القرن العشرين، فإن الطرف الثاني لم تتضح ملامحه إلا في قسم قليل من روايات القرن العشرين وبعض روايات العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. وكان لعلم السرد ما بعد الكلاسيكي الأثر المهم في توكيد هذه الحقيقة انطلاقا من اعتماده مبدئيات فكرية وقواعد بحثية تقوم على التداخل في التخصصات المعرفية متجاوزا بذلك علم السرد الكلاسيكي الذي يقوم على الانغلاق في البنية أو الانفتاح بها على غيرها مع الاحتفاظ لهذه البنية بالأولوية والأهمية.
وبسبب تعدد التخصصات وتداخلها، تناسلت عن علم السرد ما بعد الكلاسيكي علوم كثيرة، منها (علم السرد غير الطبيعي) ولقد استقطب اهتمام المنظرين الغربيين أكثر من غيره ويأتي بعده بالدرجة الثانية علم السرد المعرفي وبالدرجة الثالثة علم السرد النسوي وعلم السرد الميديوي.
ولأن في علم السرد غير الطبيعي تتبين مؤشرات استعادة الروائي الغربي لقواعد أو مواضعات السرد الشرقي القديم، يغدو دالا دلالة ناصعة على أن التنظير الفكري لهذا العلم لم يأتِ من فراغ ولا بُني على ما في الآداب الغربية من تطبيقات إجرائية وفنية حسب، بل هو استقى تطبيقاته مما في التاريخ الأدبي من نصوص وظواهر أيضا. وصحيح أن النظرية غربية المنشأ، لكن تطبيقاتها ليست كذلك تماما، بسبب تنوع الآداب ما بين القديمة وبخاصة اليونانية والرومانية والآداب الشرقية القروسطية وبخاصة العربية.
إن هذه الحقيقة قد تغيب عن الأذهان فيتصور بعضهم أن علم السرد غير الطبيعي غربي في نظرياته وتطبيقاته معا، وأن أية محاولة نقدية لتطبيق فرضياته ومفاهيمه على السرد الشرقي هي من باب المسايرة في إتباع الآخر وتقليده. وهذه مغالطة مرفوضة، ومن يؤمن بها تفوته حقيقة أن النقد الغربي نفسه مدين للسرد القديم بالفضل بوصفه الموئل الذي زوده بمكامن الغنى وفتح أمامه مجالات واسعة بها استطاع تطوير سردياته الحديثة والمعاصرة عبر فواعل خفية أو جلية. ولا غرابة في ذلك؛ فالتفاعل تأثرا وتأثيرا أمر قائم وطبيعي كما أسلفنا، ومن المهم أن يكون في ذلك تحفيز أكثر على استعادة ممكنات وفواعل سردنا القديم ومعرفة ما فيه من غنى. وبعلم السرد غير الطبيعي نقدر على هذه الاستعادة عبر الانفتاح والتفاعل مع نظرياته والاستزادة منها والتفكير في الإضافة إليها وليس العكس أي النفور والتخوف.
ومن المؤسف أن بعض المتخصصين والدارسين المهتمين بالنظريات النقدية ما يزالون يبدون امتعاضا أو اشمئزازا من هذا العلم خاصة، وعلوم السرد ما بعد الكلاسيكي عامة، بدعوى أن لا نصوص في أدبنا تناسب هذه العلوم لأنها غربية نظريات وتطبيقات. ومن ثم يكون أي تلق عربي لها هو من باب التهافت على المستورد والانبهار بالموضات والتقليعات الغربية. والأكثر إشكالية في هذه التصورات المغالِطة، المبادرة إلى الاستنتاج - من دون بحث أو استقصاء - في أن مفاهيم علم السرد غير الطبيعي لا تنطبق على نصوص مروياتنا التراثية ولا على سردياتنا الحديثة والمعاصرة، إلى غير ذلك من التصورات والظنون الخاطئة. وكأن الأدب الغربي من التفوق والتميز ما يجعله في قارة لوحده أو كأن له مقومات ذاتية خالصة لم تمر بعمليتي التأثر والتأثير. وهذا كله من تبعات الفكر الاستشراقي وما خلَّفه الاستعمار في دواخلنا من عقدة الشعور بتفوق الآخر ودونية الذات، ليظل تفكير الناقد العربي محصورا منهجيا في(المقارنة) حسب. وهو أمر عفت عليه المناهج ما بعد الحداثية ناهيك عما توسم به المرحلة النقدية التي نعيشها بأنها عولمية وما بعد عولمية.
وإذا كان منظرو السرد غير الطبيعي الغربيون قد تغافلوا عن التمثيل على نصوص من السرد العربي القديم أما جهلا أو تجاهلا وقد يكون تعاليًا، فإن ذلك مسوغ مهم لأن ننهمك في دراسة هذا العلم الذي فيه من المفاهيم ما يسمح لنا بتجديد رؤانا ويفتح أمامنا مجالات جديدة لمعرفة المزيد عن سردنا القديم وما فيه من ثراء، لم تصل إليه أقلام النقاد العرب ولم تتناوله بعد بشكل عميق أو كلي، بسبب المناهج السياقية التجزيئية المرتبطة بنظريات تاريخية واجتماعية ونفسية وفنية ولغوية أو بسبب البنيوية وما جاء بعدها من مناهج ما بعد بنيوية.
وما ينبغي على نقدنا المعاصر هو التحرر من قيود النظر التجزيئي إلى النص الأدبي عبر الشعور بأهمية العلم النظري من جانب واتقان كيفية تلقي مفاهيم علم السرد ما بعد الكلاسيكي من جانب آخر. ومن ذلك مفهوم(اللاطبيعية) الذي يذهب فيه الظن عند غالبية الباحثين والدارسين العرب إلى أنه يعني العجيب والفنتازي والتغريب والخيال العلمي مع علم هؤلاء أنّ كل مفهوم من هذه المفاهيم ينتمي إلى حاضن معرفي معين، وله مرجعية نقدية خاصة ومختلفة في موجهاتها ومقومات تطبيقها.
ولأجل رفع هذا الالتباس عن هذا المفهوم عمدنا إلى اجتراح بديل مفاهيمي يحمل البعد الابستمولوجي ذاته لمعنى اللاطبيعية هو(اللاواقعية). ومعلوم أن لفظة الواقعية تحيلنا عربيا إلى اتجاه أو مذهب عُرف في القرن التاسع عشر وأنه شكّل مدرسة تخرجت فيها صور مختلفة من الواقعية، خبرها النقاد العرب نظريًا وحللوا على وفقها نصوص الأدب ومثلوا عليها شعريا وسرديا. أما لفظة "اللاواقعية" فتعد جديدة، لأنها تتضارب مع الفهم أعلاه، وبما يجعل من مسمى (السرد غير الواقعي) بديلا معرفيا عن مسمى (السرد غير الطبيعي) فنتخلص بذلك من إشكالية تلقي اللاطبيعية، مدللين على فاعلية اللاواقعية وأدوارها في التضاد مع (الواقعية) بكل صورها الموضوعية والشيئية والسحرية والعجائبية والغرائبية والسوداء أو القذرة والمفرطة إلى آخره من الصور التي ليس في واحد منها ما هو رديف لغير الواقعي أي ما هو مستحيل الحصول أو غير معقول أي غير محتمل الوقوع، بل هي جميعها تتحرى المتخيل الواقعي.
بعبارة أخرى نقول إن(السرد غير الواقعي) ليس خلوا من صور الواقعية، بل هي جزء منه، ولكنها ليست كله. والسبب أن هذا السرد لا يخضع لقانون الاحتمال الأرسطي ولا يعمل على وفق نظرية المحاكاة الفنية. وأي حصر له في صورة من صور الواقعية إنما هو بتر لممكنات السرد غير الواقعي ومواضعاته التي تعود أصولها إلى المرويات التراثية القديمة التي منها استمد السرد الأوروبي تطوره بدءًا من عصر النهضة.
ولعل أكثر التصورات شيوعا، الاعتقاد بأن الواقعية السحرية(نموذج أدبي فريد يجمع بين القديم والحديث) وأنها السبب في أن يعرف أدباؤنا ما فوق الواقع. وأن حكايات ألف ليلة وليلة هي(جزء في تكوين الواقعية السحرية لكنها ليست كل الواقعية السحرية) وقد يصل الاعتقاد بأن الواقعية السحرية من نتاج العقل الغربي إلى اعتبارها هي التي نبهت(الكتاب إلى أنهم يمكن أن يقدموا إبداعات قوية ومتميزة في الواقعية السحرية) مع أن كتاب أمريكا اللاتينية ما اهتدوا إلى الواقعية السحرية إلا لأنهم اتخذوا من ألف ليلة وليلة مرجعا أو موئلا مهما لصناعة التخييل، وأسطع مثال بينهم هو خورخي بورخس.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

رواية "لتمت يا حبيبي".. إثارة مشاعر القارئ وخلخلة مزاجه

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram