TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: دع السياسة للزاعقين بصوت عالٍ

قناديل: دع السياسة للزاعقين بصوت عالٍ

نشر في: 19 يناير, 2025: 12:05 ص

 لطفية الدليمي

أظنُّ أنّ سقراط حاد عن الصواب عندما وصف الانسان بأنه كائن سياسيٌ بطبعه. ربما كان مصيباً في زمانه؛ أما اليوم فالعكس هو الصواب، أو لو شئتُ الدقّة فسأقول: كلّما زاد انغمار الانسان في الشأن السياسي كان هذا دليل فشل دولته في صناعة بيئة ملائمة للتطوّر على شتى الأصعدة.
سيختلف معي كثيرون. لا بأس. التسويغ المباشر هو: إذا كنت تعيشُ في مجتمع متطوّر وأنت تعرف تماماً ما الذي تسعى إليه من غاية علمية أو تقنية أو سواها في حياتك؛ فعلامَ الإنغمارُ في لجّة السياسة؟ دع السياسة لأهلها الذين تثق فيهم و قد منحتهم صوتك في إطار اللعبة السياسية السائدة. الفهمُ غير الانغمار المرَضي الأقرب إلى الظاهرة الهوسية كما يحصل في مجتمعاتنا. من يسعى للفهم غالباً ما يعزف عن المناكفات والمنازعات بسبب طول الدراسة والمساءلة وهو ما يجعله كائناً متفكّراً هادئاً.
تبدو السياسة لدينا مثل لعبة كرة قدم مشاعة للجميع. يحاول الكل تجربة حظّه فيها عسى أن يقوده الحظ إلى ركوب موجة عالية ستضعه على كرسي وزارة أو حتى رئاسة وزارة. حَصْرُ السياسة في نطاق الألعاب الحزبية واحدةٌ من المعالم السيئة لحياتنا السياسية؛ إذ صار الحزب قناعاً تتخفى وراءه القبيلة والعشيرة والتكايا والمجتمعات الدينية الصغيرة. يرقى القول إلى مرتبة أننا لم نعش طور الدولة الحديثة. كنّا ظلالا أو هوامش لممارسات دولتية في أحسن الأحوال.
هل تريد أن تُصابَ بصداع مزمن؟ إليك وصفة مؤكّدة: لا تنقطع عن متابعة برامجنا السياسية التلفازية. سترى صراع ديكة تتقاتل بالحناجر. الأعلى صراخا وبذاءة وتلويحاً بالرغبة في العراك بالأيدي بين المتقاتلين هم أناسٌ حصلوا على مواقع وامتيازات ما كانوا يحلمون بها أبداً. إنهم في حقيقتهم لا يدافعون عن سياسة حقيقية بقدر ما يريدون ردّ الجميل (المفترض) لمن أغدق عليهم المزايا والمال تحت لافتات رئاستهم لمراكز أبحاث ودراسة سياسات. تسأل في سرّك: ما الذي نشرته هذه المراكز؟ الجواب: لا شيء. إنها لافتات خاوية.
السياسة عندنا حديثُ مقاهٍ، وهي سلسلة حكايات يضيف لها مروّجوها والمنافحون عن شخوصها توابل رومانسية وفولكلورية. نسمع حكايات عن (سفرطاس الزعيم)، و(ثعلب السياسة) نوري السعيد الذي ما كان يطيب له السهر إلّا وهو يرتدي الدشداشة وأمامه كأس العَرَق مع صحن من أصابع الخيار المملّحة. مثلُ هذه الأمور تصلح في كتابة سيرة؛ و ليس في أمثولات سياسية. ثمّ هناك أمر آخر: السياسة عندنا تقترنُ برأس البلد. لاحظوا مثلاً كيف أنّ رئيس الحكومة عندنا بعد عام 2003 هو من يحظى بمعظم أصوات المقترعين فمن انتخبه يعرف أنّه القابض على بيت المال والمسؤول التنفيذي الأوّل في الحكومة. المال هو بيت القصيد في لعبة الإنتخابات.
تخيّلْ معي لو أنّ الحكومة في أيّ بلد هي حكومة مستقرّة و لديها سياقات عمل رصينة، هل سيحتاج مواطنوها إلى الثرثرة السياسية؟ سيعيشون حياتهم بهدوء وهم ينعمون بالخدمات مثلما يحصل في معظم دول العالم التي عرفت سرّ اللعبة: الإقتصاد القوي المدعوم بتعليم يؤكّد على الفاعلية المعرفية والتقنية التي تخلق الثروة.
حتى الآن تحدثت عن السياسة كإنشغال عام يهم الجميع، وهي عندنا ليست سوى أحاديث عابرة ظرفية الطابع تتلوّن بلون الطبقة السياسية الحاكمة. سيكون من البديهي أن نتوقّع تهافتاً على الإنخراط في أقسام العلوم السياسية في الجامعات العراقية، وهذا ليس ما يحصل في واقع الحال. السياسة لها مريدون كُثر لأنّها أحاديث نتلهّى بها؛ أما علم السياسة فذلك مركب صعب يتحاشاه كثيرون لأنّه لا يبشّرُ بمستقبل ماليّ أكيد.
سمعت حديثا لاستاذ مخضرم من أساتذة العلوم السياسية و ضمن ماقاله انه نادم على دراسته للعلوم السياسية ويتمنى لو أنّه درس القانون بدلاً عنها. أطروحته هي أنّ من يدرسُ القانون سيعرفُ شيئاً ليس بالقليل عن العلوم السياسية؛ لكنّ دارس العلوم السياسية لن يعرف شيئاً عن القانون. أعتقدُ أنه كان يضمرُ كلاماً لم يشأ التصريح به في أنّ العلوم السياسية لا يمكن تصريفها كمخرجات مالية في الإطار المهني بعكس القانون الذي يتيحُ لك حتى من غير دراسات عليا أن يكون لك مكتب محاماة ذو شأن وعلاقات عامة مثلما حصل مع أسماء شاعت في المجتمع العراقي بعد 2003.
بعد كل هذا المشهد الدرامي واشتغال الجميع بالشأن السياسي علينا ان لاننسى ان العراق لم يؤسس دراسات علوم سياسية إلا عام 1959، وكانت تلك الدراسات فرعاً في كلية الآداب!!، ثمّ تأسّست عام 1963 كلية الإقتصاد والعلوم السياسية ربّما لتكون نظيرة لكلية مماثلة في مصر، وبعدها إقترنت العلوم السياسية مع القانون في كلية القانون والسياسة عام 1969 وظلّ الأمر على هذا المنوال حتى عام 1987 عندما إنفصلت كلية القانون عن كلية العلوم السياسية. واصبحت المناهج الدراسية الأولى والعليا في الجامعتيْن مطعّمة بالإقتصاد وعلم الإجتماع فضلاً عن الفكر السياسي والعلاقات الدولية. ليست العبرة بالعناوين في النهاية وإنّما الشغف هو ما يقودُ المرء للتعمّق والاستزادة. ذكّرتْني بعض مفردات المناهج بكتب كلاسيكية رائعة للثقافة العامة منها كتاب (جورج سباين) في تطوّر الفكر السياسي، الذي إعتمده الدكتور (عبد الرضا الطعّان) مصدراً رئيسياً في كتابه المهم عن (الفكر السياسي في العراق القديم). لا أعتقد أنّ بين أساتذة العلوم السياسية في جامعاتنا العراقية من يستأنسُ الظهور في البرامج التلفازية العراقية، ولهم كلّ الحق في هذا. المشاركة في مثل هذه البرامج مجازفة كبرى لمن لم يعتد الحوار بالصوت العالي وأخذ الخصوم بسطوة المرجعيات السياسية ونفوذها المستمكن. ثمّة من يشارك وهو يعرف حدود اللعبة فتكون مشاركته باهتة لا طعم فيها.باستثناء قلة من الاساتذة الذين يضعون الحقيقة نصب أعينهم ويشخصون الخلل بوضوح وجرأة نادرين وهم من غير الطامعين بمستشارية رئاسة الوزراء أو بمنصب عال في الوزارات العراقية. السياسة ليست أحاديث فلكلورية متفلّتة ومطحنة حكايات معجونة بالدراما. أوّلُ دروس السياسة هو أنّ ثقلك السياسي محكومٌ بمعادلات جغرافية-سياسية تفرضها القوّة المدعمة بإقتصاد يتأسّسُ على الجبهات المتقدّمة للعلم والتقنيات. كل حديث خارج هذا الإطار هو جعجعة فارغة وزيف آيديولوجي وخداعُ للنفس وهدرٌ للإمكانات والزمن.
كم أتوق لزمن لن يعرف فيه العراقي إسم رئيس حكومته أو جمهوريته. متى ما حصل هذا ربما سنضع أولى خطواتنا على طريق الفعل السياسي الصائب. هذا توقٌ أعرف أنّه لن يحصل قريباً؛ وما علينا سوى أن نحلم.
لا بأس أن تقرأ عن السياسة وما يسندها من علوم ومعارف؛ لكن لا تتعبْ لسانك في الحديث الفلكلوري عنها. هذا الأمر جهد ضائع غير منتج، ثمّ لماذا تشغلُ عقلك بما يتقاتل عليه مَنْ يتقاضى ملايين الدنانير وهو لا يجيدُ من السياسة سوى الزعيق والتلويح بقبضة اليد؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

كيف يمكنناالاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمود الثامن: دولة العشائر

العمود الثامن: رئيستهم ورئيسنا !!

العمود الثامن: خواطر من بلاد العمل

العمود الثامن: ليلة نوبلية في دبي

 علي حسين كان في العاشرة من عمره عندما تملكه احساس ان مدينته دبي يمكن لها أن تُصبح الأولى في هذا العالم المترامي الاطراف ، كان ذلك عام 1949، وقف مذهولاً وسط مطار هيثرو...
علي حسين

قناديل: دع السياسة للزاعقين بصوت عالٍ

 لطفية الدليمي أظنُّ أنّ سقراط حاد عن الصواب عندما وصف الانسان بأنه كائن سياسيٌ بطبعه. ربما كان مصيباً في زمانه؛ أما اليوم فالعكس هو الصواب، أو لو شئتُ الدقّة فسأقول: كلّما زاد انغمار...
لطفية الدليمي

استلاب النخب العراقية وتواطؤ السلطة

أحمد حسن النخب العراقية، التي يفترض بها أن تكون الحامل الرئيسي لروح النقد ورافعة التغيير، انزلقت إلى هاوية الانحراف الأخلاقي والفكري، متحوّلة إلى أداة خاضعة تخدم الأقوياء في مشهد سياسي واجتماعي تحكمه الفوضى. مفهوم...
أحمد حسن

بين المتطلبات الأكاديمية والتحديات المهنية تعقيدات تطبيق تعليمات الترقيات العلمية

د. طلال ناظم الزهيري لا شك أن جودة التعليم تعكس اهتمام الدول بمؤسساتها التعليمية وكفاءة مخرجاتها وهي كفاءة لا تقتصر آثارها على الجانب الأكاديمي فحسب بل تمتد إلى جميع قطاعات الحياة مثل الاقتصاد الصحة...
د. طلال ناظم الزهيري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram