محمد صبّاح *
إذا كانت الصهيونية قد نشأت في الأصل كحركة رد فعل على الاضطهاد، فإنها تطورت لتصبح مشروعًا معقدًا يجمع بين الجوانب الثقافية والسياسية والاقتصادية. من خلال رؤى شخصيات مثل هيرتزل، بنسكر، بيرنباوم، وآحد هعام، تم تجميع القوى الفكرية والاقتصادية من أجل بناء أمة يهودية حديثة. وفي تصريحٍ لهيرتزل: "إذا أردتم، فلن تكون الأسطورة أسطورة." كانت هذه الكلمات تعبيرًا عن أن الصهيونية كانت في جوهرها حلاً عمليًا بعيدًا عن الخيال أو الأساطير. من خلال تجميع الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد، تمكّن المشروع الصهيوني من وضع الأسس لتأسيس دولة يهودية مستقلة في فلسطين، بعيدًا عن الاضطهاد الذي عانى منه اليهود في أوروبا.
إذن ماذا أمام الفلسطينيين ليفعلوه من أجل إنجاز المسألة الفلسطينية؟ هذا التساؤل يعكس عمق التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني في سعيه نحو تحقيق حقوقه واستعادة أراضيه. لكن، للإجابة على هذا التساؤل من منظور فلسفي، يجب أن نتناول الموضوع ليس فقط من زاوية الحلول السياسية أو العسكرية، بل من خلال تحليل أعمق للمفاهيم المرتبطة بالحرية، العدالة، والوجود.
منذ بداية المشروع الصهيوني، وجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة سؤال وجودي يتجاوز صراع المقدس؛ التحدي الأعمق يكمن في كيفية الحفاظ على الذات في مواجهة محاولات طمس الهوية الثقافية والسياسية؛ الإجابة عن هذا السؤال لم تكن مجرد رد فعل على واقع سياسي أو عسكري، بل كانت تتطلب فكرًا فلسفيًا وجوديًا يتعامل مع الأمل والفقدان، مع الذات والآخر؛ هذا الصراع الوجودي يطرح قضية أعمق من الاحتلال العسكري؛ إنه صراع من أجل معنى الوجود.
- الفلسفة الوجودية والهوية الفلسطينية: تحرير الوجود من النفي
من خلال الفلسفة الوجودية، التي تعنى بالحرية والوجود والخيارات الفردية في عالم مضطرب، يمكننا فهم الصراع الفلسطيني بشكل أعمق. في قوله المشهور "الوجود يسبق الجوهر"، يعبر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عن فكرة أن الإنسان يُوجد أولًا، ثم يعطى نفسه المعنى في هذا الوجود. بالنسبة للفلسطينيين، يمكن تفسير هذه الفكرة على النحو التالي: "نحن هنا، نحن موجودون، والوجود الفلسطيني في هذه الأرض هو جوهرنا، وتحرير هذا الجوهر هو مهمتنا الأساسية". هذه المقولة تعكس أساس المقاومة الثقافية والنضال الوطني الفلسطيني، حيث لا يقاتل الفلسطينيون فقط من أجل البقاء، بل من أجل الحفاظ على وجودهم الحي والمؤثر في التاريخ. - الوجود الفلسطيني: معركة الأثر والذاكرة
كما يشير المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق": "الوجود الفلسطيني هو المعركة الحقيقية". يعكس هذا الفكر أن الفلسطينيين لا يقاتلون من أجل الأرض فقط، بل في مواجهة محاولات محو وجودهم كأمة وشعب. هذا الصراع يتجاوز الاحتلال العسكري ليصل إلى تهديد الهوية الثقافية واللغوية والتاريخية. إنه صراع ذاكرة وهويّة، حيث يصبح الاحتلال أداة لمحاربة استمرار الوجود الفلسطيني في الذاكرة الجماعية، مما يجعل القضية الفلسطينية تمثل أزمة وجودية تتحدى الزمان والمكان. - الإنجاز الثقافي: رد فعل فكري على محاولات النسيان
يكمن تعزيز الهوية الفلسطينية في عمقها في الجانب الثقافي والفكري، حيث يتجاوز الفلسطينيون مجرد الرد العسكري، ليصبحوا أكثر من مجرد مقاومين على مستوى الذاكرة والثقافة. الشاعر محمود درويش، في العديد من قصائده، يتبنى فلسفة وجودية ضد محو الهوية الفلسطينية. يقول في كتابه "في الطريق إلى الخلاص": "نحن لا نحارب من أجل البقاء فقط، بل من أجل أن يكون لدينا معنى في هذا العالم". درويش يعكس عبر شعره فلسفة المقاومة الثقافية التي تهدف إلى الحفاظ على الهوية الفلسطينية في وجه محاولات محوها، وإعادة تعريف الذات في مواجهة الزمن والمكان. - إعادة خلق الذات: الخلق والاستمرار في ظل التحديات
من خلال فلسفة نيتشه، التي تقول: "من لا يستطيع أن يقاتل من أجل حياته، عليه أن يخلق معنى لحياته"، نلاحظ أن الفلسطينيين لا يقاومون الاحتلال فقط، بل يسعون لخلق معنى وجودهم في عالم مليء بالتحديات. مقاومة الفلسطينيين ليست فقط عسكرية، بل هي مسعى ثقافي لاستعادة الزمن الفلسطيني المسروق وإعادة بناء الوجود الوطني في سياقات جديدة. كما يؤكد رشيد الخالدي، الفلسطينيون في صراع دائم مع محاولات تذويب هويتهم التاريخية والثقافية، مما يحول القضية الفلسطينية إلى صراع من أجل الذاكرة والتاريخ. - اللغة والثقافة: معركة الهوية الفلسطينية
من خلال فكرة أنطون شلحت، الذي يرى أن الحفاظ على الثقافة الفلسطينية والتأكيد على الهوية اللغوية جزء من معركة الوجود، نجد أن اللغة هي أساس الهوية. فيقول شلحت: "اللغة هي أساس الهوية الفلسطينية، وعندما تُمحى، فإننا نُمحى نحن أيضًا". المقاومة الفلسطينية ليست فقط مقاومة عسكرية، بل هي مقاومة ثقافية حقيقية، حيث يسعى الفلسطينيون للحفاظ على لغتهم وتراثهم في وجه الهجوم المستمر على هويتهم. هذه المقاومة هي بمثابة إعادة تأكيد للوجود الفلسطيني في ظل محاولات محو ثقافتهم وتاريخهم. - الوجود والوقت: احتلال الذاكرة والزمن الفلسطيني
عزمي بشارة يضيف بعدًا حاسمًا إلى هذا الفكر، حيث يرى أن الفلسطينيين لا يعانون فقط من الاحتلال الجغرافي، بل من احتلال الزمن ذاته. يقول بشارة: "الاحتلال لا يأخذ فقط الأرض، بل يسعى إلى أخذ الزمن الفلسطيني". هذه المقولة تشير إلى أن الصراع الفلسطيني ليس فقط على الأرض، بل على استمرارية وجودهم كأمة عبر الزمن. إن الاحتلال يسعى لتدمير استمرارية الوجود الفلسطيني عبر الزمن، مما يجعل القضية الفلسطينية قضية وطنية وتاريخية في آنٍ واحد. - بناء الوجود الاقتصادي: صندوق قومي فلسطيني كمصدر قوة
من خلال رؤية استراتيجية جديدة، يمكن للفلسطينيين تبني مفهوم إنشاء صندوق قومي فلسطيني كأداة لبناء قوة اقتصادية وطنية تواجه المشروع الصهيوني. مثلما أسهم الصندوق القومي الصهيوني في تعزيز مشروعهم الاستيطاني، يمكن لفلسطين أن تنشئ صندوقًا يهدف إلى دعم مشاريع تنموية داخل الأراضي الفلسطينية، مثل الزراعة والصناعة والتعليم، مما يعزز الاستقلال الاقتصادي ويحد من التبعية. كما يقول رشيد الخالدي: "الوجود الفلسطيني ليس مجرد وجود جغرافي، بل هو وجود اقتصادي وثقافي يضمن استمراريته". القدرة على استثمار الموارد في مشاريع تنموية ستكون أداة فعالة لدعم الهوية الفلسطينية وتعزيز استقلالهم الاقتصادي.
في النهاية، يبقى السؤال الفلسفي الأكبر بالنسبة للفلسطينيين: كيف يواجهون تحدي محو هويتهم دون أن يصبحوا ضحايا للتاريخ؟ كيف يعيدون بناء وعيهم الوطني الخاص في عالم مليء بالضغوط السياسية والاقتصادية؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب خيارات وجودية متعددة، عبر إرادة القوة التي تُخلق من المقاومة الثقافية، الدبلوماسية، والتضامن الدولي. من خلال هذا المسار، يصبح الفعل الفلسطيني ليس مجرد تمرد ضد الاحتلال، بل بناء لوجود متجدد يسعى لتثبيت نفسه في صفحات التاريخ، بعيدًا عن القهر والظلم.
· كاتب فلسطيني