بغداد /تبارك عبد المجيد
تعيش بغداد اليوم في مواجهة حقيقية مع تلوث الهواء والمياه، حيث أصبحت هذه المشكلات تهدد الحياة اليومية لسكان المدينة. ومع تصاعد الأزمة البيئية، بدأ العديد من الخبراء والمختصين في تحذير المواطنين من المخاطر التي قد تترتب على تلوث المياه، لا سيما مع وجود معدلات مرتفعة من المعادن الثقيلة في الأنهار، مما جعل مياه الشرب والصرف الصحي تحمل الأمراض.
يقول المتحدث باسم وزارة البيئة، لؤي المختار، إن "تلوث الهواء في مدينة بغداد ما زال يمثل تحدياً كبيراً، نتيجة غياب الاستدامة في تنفيذ الإجراءات الضرورية من قِبل بعض المؤسسات الحكومية"، أما فيما يخص تلوث المياه، أوضح المختار أن "الوزارة تعمل حالياً على تحديث برنامج الرقابة الخاص بالمصادر المائية، مع إدخال أجهزة محمولة حديثة لفرقها الرقابية تُتيح فحصاً سريعاً لنوعية المياه، بما في ذلك قياسات للمعادن الثقيلة".
وأشار إلى ضرورة أن تتبنى المؤسسات التنفيذية، ولا سيما دوائر المجاري من خلال وزارة الإعمار والإسكان، خطة واضحة لتنفيذ ستراتيجية الحد من التلوث 2023-2030. وتشمل هذه الخطة إقامة مشاريع كبرى لتحسين خدمات الصرف الصحي، مثل إنشاء محطات معالجة مركزية، محطات رفع، وشبكات مستقلة لمياه الأمطار، لمعالجة حوالي 6 ملايين لتر يومياً من مياه الصرف الصحي، التي تمثل عبئاً كبيراً على جودة المياه. كما دعا وزارة الصحة إلى وضع خطة زمنية محددة لإنشاء محطات معالجة لمخلفات المستشفيات السائلة في بغداد والمحافظات.
وفي إطار الجهود الدولية، كشف المختار عن إطلاق الوزارة مشروعاً مهماً بتمويل قدره 18.5 مليون دولار من مرفق البيئة العالمي وصندوق التعافي والإعمار، وبإشراف البنك الدولي. يهدف المشروع، المقرر تنفيذه بالتعاون مع حكومة إقليم كردستان ووزارات المالية والتخطيط والكهرباء والزراعة، إلى مواجهة مخاطر الملوثات العضوية الثابتة في عموم العراق، لا سيما في المحافظات المحررة.
وأطلق الخبير البيئي تحسين الموسوي، تحذيرات جادة تسلط الضوء على المخاطر البيئية والصحية التي تتفاقم يومًا بعد يوم بسبب مشكلات الصرف الصحي في العاصمة بغداد. المدينة التي كانت يومًا رمزًا للحضارة، تجد نفسها اليوم غارقة في أزمات تلوث المياه، حيث البنية التحتية المتهالكة لم تعد قادرة على استيعاب النمو السكاني المتسارع، والذي تجاوز حاجز التسعة ملايين نسمة.
يروي الموسوي لـ(المدى)، قصة محطتي معالجة الصرف الصحي الشمالية والجنوبية، اللتين أنشئتا في العام 1983 بطاقة تصميمية كانت تعد إنجازًا كبيرًا حينها، لكنها كانت مخصصة لسكان يبلغ عددهم مليون ونصف فقط. ومع مرور العقود وازدياد عدد السكان، انهارت هذه المنظومة تحت وطأة الضغط المتزايد. توقف المحطتان عن العمل، ومعهما بدأت كميات هائلة من المياه الثقيلة تتدفق بلا معالجة إلى نهر دجلة، الشريان الذي طالما كان مصدر الحياة للعراقيين، لكنه اليوم يتحول تدريجيًا إلى مصدر للأمراض والمخاطر.
هذا التلوث لا يمر دون أثر
يؤكد الموسوي أن تلوث المياه بالصرف غير المعالج يؤدي إلى انتشار أمراض خطيرة، منها السرطانات والأمراض الجلدية، بالإضافة إلى أمراض وبائية قد تظهر مع الزمن. كما أن البيئة البحرية للنهر لم تسلم هي الأخرى؛ حالات نفوق الأسماك باتت مشهدًا مألوفًا، والتنويع الأحيائي الذي كان يميز حوض دجلة بدأ بالاندثار.
ورغم فداحة الوضع في بغداد، فإن هذه الأزمة ليست حكرًا عليها. الموسوي يشير بوضوح إلى أن المحافظات الأخرى ليست بمنأى عن هذه الكارثة، مشيرًا إلى مسؤولية وزارة البلديات والوحدات الإدارية في التصدي لهذه المشكلة، منتقدًا غياب التخطيط الجاد والوعي الكامل بخطورة ما يحدث.
الأمر لا يقتصر على التحذيرات فقط. فقد أزاحت دراسة علمية نُشرت في 2021 الستار عن حجم الكارثة، حيث أكدت أن مياه نهر دجلة أصبحت مشبعة بالمعادن الثقيلة بسبب المخلفات الصناعية التي تُصرف مباشرة إلى النهر. الدراسة، التي أُجريت لصالح الجامعة التكنولوجية، كشفت عن وجود مخاطر جسيمة على الحياة البشرية والبيئية على حد سواء. هذه النتائج جاءت بعد أشهر من الرصد الدقيق، لتؤكد ما بات يعرفه الجميع: دجلة لم يعد كما كان.
أما الحلول، فإنها وإن كانت تبدو ممكنة، لكنها تتطلب إرادة حقيقية وإجراءات جادة. يدعو الموسوي إلى تحرك عاجل لمعالجة محطات الصرف الصحي المتوقفة، مع ضرورة تبني حلول مستدامة تضمن عدم تكرار هذه الكارثة في المستقبل. يرى أن الوقت ينفد، وإذا استمر الوضع على حاله، فإن العراق سيواجه كارثة بيئية وصحية لن تقتصر آثارها على الحاضر، بل ستمتد لتلقي بظلالها على الأجيال القادمة.
استشارية الأمراض الجلدية، بنين علي، تشير إلى وجود تحديات صحية خطيرة ارتبطة بتلوث المياه في العراق، وتقول لـ(المدى)، إن "ارتفاع نسب المعادن الثقيلة في مياه الأنهار ومصادر الشرب يجعلها غير صالحة للاستهلاك البشري، حتى بعد معالجتها بالكلور". موضحةً، أن "تأثير هذه المياه لا يقتصر على البشر فقط، بل يمتد ليشمل الحيوانات التي تعتمد على هذه المصادر، ما يضر بالصحة العامة ويهدد البيئة".
وأشارت علي إلى أن "المياه الملوثة المستخدمة في الأنشطة اليومية، مثل الغسيل، تتسبب في نقل أمراض جلدية خطيرة، وقد تترسب الأملاح داخل الكلى والمجاري البولية، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالفشل الكلوي وتكوين الحصى"، وأكدت أن محطات معالجة المياه في العراق تعتمد على تقنيات بدائية تقتصر على ترسيب الأطيان وضخ الكلور، لكنها تفتقر إلى القدرة على إزالة الملوثات الأكثر خطورة، مثل المعادن الثقيلة والمواد الهيدروكربونية، التي تنتقل مباشرةً من الأنهار إلى منازل المواطنين.
وأعربت علي عن قلقها تجاه الأطفال المصابين بأمراض جلدية ناتجة عن استخدام المياه الملوثة، حيث يواجه هؤلاء الأطفال تحديات نفسية واجتماعية، منها العزلة بسبب مظهرهم، الذي يسبب لهم شعورًا بالإحراج والاكتئاب.
وبينت أن مشكلة تلوث المياه تتجاوز الأمراض الجلدية لتشمل أمراضًا أخرى أكثر خطورة، مثل التهاب الكبد الفيروسي والكوليرا، التي ترتبط بتلوث المياه بالبكتيريا والطفيليات. وأوضحت أن الكوليرا، التي ازدادت حالات الإصابة بها في الفترة الأخيرة، تسبب إسهالًا حادًا قد يؤدي إلى الوفاة، خاصة في المناطق التي تعاني من ضعف البنية التحتية الصحية ونقص المياه النظيفة.
كما حذرت علي من أن التلوث المائي المزمن يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض خطيرة، مثل السرطان وأمراض الكلى، وعلى رأسها الفشل الكلوي، نتيجة ارتفاع نسب المعادن الثقيلة في المياه. وأكدت أن الإحصائيات الرسمية لوزارة الصحة تشير إلى ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض خطيرة مرتبطة بالمياه الملوثة، مثل التيفوئيد والكوليرا والفشل الكلوي، إلى جانب انتشار أمراض معدية كالأميبا والدزنتري.
وعلى صعيد البيانات الرسمية، أفادت وزارة الصحة بارتفاع ملحوظ في معدلات الإصابة بأمراض خطيرة ترتبط بتلوث المياه، مثل التيفوئيد، والجدري المائي، والكوليرا، والفشل الكلوي. كما أشارت إلى تفشي أمراض أخرى مرتبطة بالمياه الملوثة، من بينها الهيضة، والأميبا، والدزنتري. ولفتت الوزارة إلى أن السبب الأساسي وراء انتشار هذه الأمراض يكمن في نقص إمدادات المياه النظيفة وسوء إدارة الموارد المائية في البلاد.
ووفقًا لتقرير صادر عن الوزارة في تشرين الأول من العام الماضي، تجاوز عدد الإصابات بمرض الكوليرا حاجز 400 حالة. وسُجلت 119 إصابة في محافظة السليمانية، و109 إصابات في كركوك، و107 إصابات في محافظة ديالى، ما يعكس حجم الكارثة الصحية التي يعاني منها العراق نتيجة أزمة المياه.