TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > نزار الشابندر.. الإنسان والطبيب

نزار الشابندر.. الإنسان والطبيب

نشر في: 21 يناير, 2025: 12:01 ص

أحمد حميد

أصعب الأدوار، هو دور الإنسان الأعزل في مهادنة، ومدارة السلطة القمعية، لعلهُ يتمكن من تحييدِ مشاعرها الغاضبة، تجاه ممن يشتركونَ معهُ في الدمِ والمصير. قلة من العراقيين تمكنوا من إجادةِ هذا الدور، وصمدوا أمام الإرهاب السياسي الذي خنقَ العراق على مدارِ ثلاثةِ عقودٍ ونيّف.
كان الدكتور نزار الشابندر (1942م - 2025م)، يسيرُ وسطَ حقلِ ألغامٍ وهو يمارسُ دورهُ الوظيفيّ في وزارة الصحة. طبيبُ الأمراض الباطنية، كان مديراً كفوءً لدوائر صحية مهمة، أبرزها: دائرتا صحة بغداد، والبصرة، فضلاً عن كونهِ من المؤسّسين لفكرة العيادات الشعبية، أواخر القرن المنصرم.
في عيادتهِ الخاصّة، التي يُمارس فيها وظيفتهُ الإنسانية بعد الدوام الرسمي، كان لا يستقبل المرضى وحسب، إنما سائر الناس البسطاء من الذين لا يستطيعون الوصول إلى غرفةِ السيد المدير العام، نتيجة التعقيدات البيروقراطية الحاكمة في مؤسّساتِ الدولة آنذاك. في هذه العيادة، كانت تمرُّ إجازاتُ مختلفِ الأطباء المنتمينَ للحركة الإسلامية، ممن كانوا ينوون الهجرةَ خلسةً، وهرباً من بطشِ النظام. كان يمنحهم ما يريدون من أصولياتٍ إدارية، ويرددُ نغمةً شبيهةً بنغمةِ العجائز الصافية: "جماعة غالب.. خذوا ما تريدون.. بس خلصوني لخاطر الله".
شكوك النظام بالولاء الأيديولوجي لكبير كوادرهِ الصحية، أدت إلى إجبارهِ على ترك الوظيفة. كيف يكون مخلصاً للعقيدة الحاكمة، وهو أخٌ لثلاثةِ معارضينَ لها (غالب، وعزت، والشهيد محمد علي)؟! كما أنّ شقيقيهِ كان لهما إضبارة سميكة في دوائر الأمنِ والمخابرات، وكلُّ ما فيها يؤكد انتماءهما لـ"حزب الدعوة العميل".
بعيد سقوط النظام، عاودَ الدكتور نزار الشابندر، حضورهُ في وزارة الصحة. استدعاهُ الوزير الجديد الذي لم ينسَ فضلهُ وتسهيلاتهُ لهُ ولرفاقهِ الدعاة في سنواتِ المحنة. تسنّمَ الشابندر إدارة ديوان الوزارة، لكنّ نزاهتهُ وشفافيتهُ اصطدمت مع من يؤمنون بـ"مجهولية المالك للدولة"، هذا الشيعي الطبيعي، لم يكن متمرِّساً على نفاقيات "الإسلام السياسي"، ولم يكن ضليعاً في الأحكام "الشرعية" التي تؤصّل لهذا النفاق. كان يعمل بضميرهِ الإنسانيّ الذي اصطدمَ مع مسؤوليْنِ في الوزارةِ آنذاك، بعد اتهامهِ إياهما "بالفساد". مواجهة غير متكافئة، جعلتهُ يدفعُ ضريبةً قاسية، ألقت بظلالها على نفسهِ لغاية الممات.
في إحدى المنازل الخرِبة بأطرافِ العاصمة بغداد، وضع المليشاويون، أسيرهم. شيبتهُ ووضعهُ المزري، حرّكتا عاطفة إحدى نساء ذلك المجتمع، كان يسمعُ حوارها مع الخاطفينَ من ذويها ":إذا ما عنده شيء.. خطية شكو خاطفيه". في مساءٍ كئيب؛ اتصلوا بالمنزل، طلبوا فديةً قدرها (٢٨ ألف دولار) وقتذاك. المال جاهز، لكن من يمتلك الجرأة على مواجهة هؤلاء المدججين بثقافةِ الموت والسلاح؟ الأخوان الإسلاميان ما يزالانِ في المهجر. الأخُ الأصغر، ضعيف القلب والبنية، شاعرٌ لا يُجيد فن التفاوض في عمليةِ البيع والشراء، كيف يُجيد التفاوض مع مسلحين؟! إذاً، من يقوم بالمهمة؟
خبرُ اختطاف الشابندر، راجَ بين الناس. طبيبٌ من الأنبار، تصدى للتفاوض مع الخاطفين، لأنهُ كان يدرك قيمة وإنسانية زميلهِ المخطوف، فضلاً عن أفضال الأخير عليهِ في وقتٍ سابق. من سوءِ الحظ، أن المفاوض كان يعاني من أمراضٍ في القلب، و قد انهكتهُ مراوغة الخاطفين. وفي إحدى المساءات العصيبة، دحرجَ الخاطفونَ ضحيتهم على رصيفٍ عام، وقبيل مغادرتهم، أصابوا إحدى قدميهِ بطلقةِ رصاص.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. قاسم العلي

    منذ 11 شهور

    انا لله وانا اليه راجعون مع الاسف فقدنا انسان بمعنى الكلمة لم يبخل على كل طلب منه المساعدة الصحية وخاصةً الفقراء ولم يترك الحياة الا بعد ان ادى رسالته الإنسانية والعائلية الا وترك بصماته لكل من يعرفه ومن لم يعرفه وقد عانى ما عانى من آلام النظام البائد

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

 علي حسين عزيزي القارئ.. هل تعرف الفرق بين المصيبة والكارثة؟، المصيبة يمكن أن تجدها في تصريح السياسيين العراقيين وجميعهم يتحدثون عن دولة المؤسسات، وفي الوقت نفسه يسعون إلى تقاسم المؤسسات فيما بينهم تحت...
علي حسين

أزمة المياه في العراق وإيران: تحديات جديدة للاستقرار الإقليمي

د. فالح الحمــراني حذرت دراسة أعدها معهد الشرق الأوسط في موسكو من ان أزمة المياه بإيران والعراق المتوقعة في نهاية هذا العام قد تفضي الى عواقب بعيدة المدى، تؤثر على الاستقرار الاجتماعي في المنطقة،...
د. فالح الحمراني

العراق.. السلطة تنهب الطقس والذاكرة

أحمد حسن على مدار عشرين عاما، تحولت الثقافة في العراق إلى واجهة شكلية تتحكم بها مجموعات سياسية تدير المجال العام كما تدير المغانم. وفي ظل هذه الوضعية لم تعد الثقافة فضاء لإنتاج الوعي أو...
أحمد حسن

لماذا تهاجم الولايات المتحدة أوروبا بسبب حرية التعبير؟

فابيان جانيك شيربونيل * ترجمة : عدوية الهلالي «أعتقد أنهم ضعفاء. الأوروبيون يريدون أن يكونوا ملتزمين بالصواب السياسي لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون." لفهم الموقف الأمريكي تجاه القارة العجوز، يصعب إيجاد تفسير أوضح...
فابيان جانيك شيربونيل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram