TOP

جريدة المدى > عام > علم القصة - الذكاء السردي

علم القصة - الذكاء السردي

نشر في: 22 يناير, 2025: 12:03 ص

آنغوس فليتشر
ترجمة: لطفيّة الدليمي
القسم الثاني (الأخير)
منطق الفلاسفة
ظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر البرونزي، وفي البلدان المتوسطية، وفي الصين القديمة وأمريكا الجنوبية، وفي كلّ المواقع القديمة التي يحفظ لها التاريخ الحفري سجلات مدوّنة أو آثاراً مشهودة شاخصة.
منذ البدء رأى الفلاسفة في صناعة الحُجج Arguments وظيفة أساسية لهم، لذا تراهم انخرطوا في مناقشات حجاجية قاسية لم تهدأ يوماً ما. تنازعوا فلسفياً بشأن موضوعات عديدة: من أين جاء العالم؟ ومِمّ صُنِع؟ ولماذا وُجِدنا نحن البشر في هذا العالم؟ برغم الحجاج القاسي بين الفلاسفة فإنّهم إتفقوا على أمر واحد: القصة ليست أداة يمكن الاعتماد عليها في التفكير. هُمْ رأوها وسيلة لا تخلو من جنبة إنحيازية (تمييزية)، ووسيلة تتبع هوى خالقها، ومغاليةً في الاعتماد على الحقائق الحاضرة. لذا كرّس الفلاسفة أنفسهم لإيجاد أداة تفكير أكثر صرامة، وشيئاً فشيئاً تشاركوا قناعة راسخة بأنّ تلك الاداة هي المنطق Logic.
في سنة 350 قبل الميلاد تمكّن الفيلسوف المقدوني متعدد الاشتغالات Polymath، أرسطو، من جمع وتوحيد الاْقيِسة المنطقية المتناثرة بعمله الكبير: الاورغانون Organon. يضمّ الاورغانون ستّة كتب أسّس فيها أرسطو قواعد المنطق الاربعة: الاستقراء Induction، الاستنتاج Deduction، فهم (تفسير) النتيجة Interpretation، الجدل المنطقي (الديالكتيك) Dialectic. ظلّت هذه القواعد المنطقية تخدمُ كأساس للفلسفة في معظم أرجاء الامبراطورية الرومانية، وغرب العالم وشرقه، ثمّ في معظم الامبراطورية الاسلامية إبان عصرها الذهبي، ثمّ لاحقاً وأخيراً ومنذ القرن الثاني عشر حتى القرن السادس عشر ظلّت هذه القواعد الارسطوية شائعة وراسخة في كلّ جامعة غربية عظيمة من جامعة بولونيا الايطالية حتى جامعة باريس وأكسفورد.
جابهت سطوة المنطق الارسطوي العتيدة تحدياً بيّناً خلال عصر النهضة الاوربية عندما عمد الفلاسفة الطبيعيون ذوو العقول التجريبية (من أمثال ليوناردو دافنشي، غاليليو غاليلي، ويليام هارفي) إلى استبعاد (بل وحتى مهاجمة) الكتب المدرسية الخاصة بالمنطق الارسطوي لأنهم وجدوه قصير النظر محدوداً، تنخره الهشاشة، وغير ذي فائدة، لكنّ المنطق إستعاد بعض مجده الغابر فكانت له عودةٌ خلال عصر التنوير بفعل جهود ديكارت وعبارته التأسيسية في الكوغيتو (اشارة إلى العبارة اللاتينية Cogito Ergo Sum: أنا أفكّر إذن أنا موجود، المترجمة)، وكذلك علم الفلك الرياضياتي الذي وضع أساسه إسحق نيوتن، ومفهوم العقل المتسامي الذي جاء به إيمانويل كانت. منذ تلك الجهود المتقدّمة في جبهة المعرفة البشرية راح المنطق يندفعُ حثيثاً في توسيع مكانته في نطاق الفلسفة. مع بدايات القرن التاسع عشر أثمرت هذه الجهود عن مولد الرومانتيكية Romanticism بعد أن نفخ هيغل روح الحياة في الديالكتيك الارسطوي ممّا آذن بميلاد الماركسية وبقية الفلسفة القارية (الاوربية). مع أواخر القرن التاسع عشر صار المنطق الارسطوي أساساً في انبثاق الفلسفة التحليلية Analytic Philosophy عندما وسّع غوتلوب فريغه Gottlob Frege من نطاق القوانين المنطقية الارسطوية لتكون حساباً Calculus يمكنه تناول أية محاججة. تمكّن تشارلس سبيرمان Charles Spearman بداية القرن العشرين من توسعة نطاق المنطق الارسطوي المُحدّث ليصبح المبدأ الحديث الذي يقوم عليه "الذكاء العام"، ومن هذا المبدأ (مبدأ سبيرمان) ورثنا إيماننا الراسخ بالتفكير النقدي، والمثالية الابداعية القادرة على الاتيان بفعل خلاق، والاختبارات المُعيّرة Standardized Testing (إشارة إلى إختبارات سبيرمان المعروفة في فحص وتحديد حاصل الذكاء IQ، المترجمة). ثمّ أخيراً، ومع العقود الاخيرة من القرن العشرين ساهم هذا المنطق في إطلاق الذكاء الاصطناعي الحاسوبي.
يعمل الذكاء الاصطناعي بذات الاقيسة المنطقية Syllogisms (و، أو، لا) التي أسّسها أرسطو وعدّها قوانين المنطق الازلية الخالدة. هذه الاقيسة المنطقية الثلاثة يتمّ تحويلها لدوائر ألكترونية (بوّابات منطقية) في وحدة الحساب المنطقية ALU التي تمثلُ عقل الحاسوب. الحقّ أنّ هذه الاقيسة المنطقية الثلاثة هي قواعد الفكر الوحيدة التي يستخدمها كلّ حاسوب أو ذكاء إصطناعي. هذا يعني أنّ كلّ أعاجيب تعلّم الآلة Machine Learning إنما تقتفي أثر الاورغانون الارسطوي. يمكن تلخيص الامر في العبارة التالية: أي شيء يمكن أن تفعله -أو ستفعله- خوارزمية حاسوبية إنما يتأسس على منطق خالص ممثل في الاقيسة المنطقية الارسطوية الثلاثة.
هذا هو ما جعل معلّميّ يعزفون عن ربط القصة بالتفكير. تمكّنت منهم دهشةٌ مديدة راسخة بلحظات الالهام واسعة النطاق التي تأتي مع الفلسفة، ابتداءً من الفلسفات الهندية القديمة حتى الانعطافة اللغوية التي جاءت مع نشر كتب فتغنشتاين وتأسيس مدرسة التحليل اللغوي والفلسفة التحليلية البريطانية. إعتاد معلّميّ على قياس مدى الذكاء Cleverness بمعيار ال IQ المجرّد، والابداع بالقدرة على تصميم مبتدعات جديدة. رأى مُعلّميّ المستقبل ممثلاً في شواخص الذكاء الاصطناعي العجيبة، وراحوا ينظرون إلى الفطنة البشرية على أنها مكافئ أوحد للمنطق وثماره الفكرية: من الرياضيات إلى السيميائيات إلى العلوم الحاسوبية، ومن هندسة إقليدس إلى نظرية سي. أس. بيرس C. S. Pierce في الاشارات إلى برهان آلان تورنغ على الذكاء العام للآلة، ومن المبادئ السياسية لدستور الولايات المتحدة الامريكية إلى الطرق الهرمنيوطيقية للإنسانيات الحديثة.
ما الذي يمكن أن يكون خاطئاً مع هذه النسخة من التاريخ الفكري؟ وما الذي يمكن أن يكون أغفله مُعلّميّ؟
ما أغفله مُعلّميّ
لم يكن مُعلّميّ مخطئين بشأن إعتبار المنطق تفكيراً. هُمْ أخطأوا في اعتبار المنطق الشكل الاوحد للتفكير. السبب وراء هذا الامر هو وجود -على الاقل- طريقتيْن للتفكير: المنطق والقصة. كلٌّ من المنطق والقصة بوسعه حلّ معضلاتٍ ليس في استطاعة الآخر تقديم حلّ مناسب لها، وكلٌّ من المنطق والقصة بمستطاعه تخليقُ أشياء لن يستطيع الآخر تخليقها أبداً.
ثنائية الذكاء هذا (الذكاء المنطقي والذكاء القصصي) يمكن عرضُها بمقاربتيْن: تحليلية وتجريبية.
في المقاربة التحليلية: توظّفُ القصة والمنطق طرقاً إبستمولوجية (معرفية) مختلفة ومتمايزة. طريقة المنطق هي المعادلة المساواتية Equation، أو بطريقة أكثر دقّة من الوجهة التقنية: الاستدلال الارتباطي Correlational Reasoning الذي يستبعدُ المؤثرات الفردانية من معادلة هذا يساوي ذاك. تعتمد القصة طريقة الخبرة الذاتية، أو بتوصيف أكثر تقنية: التأمّل السببي Causal Speculation الذي يتطلّبُ كلاً من الماضي والحاضر والمستقبل (بمعنى لا يستبعدُ أياً منها، المترجمة) من عبارة هذا يسبّبُ ذاك. كل مقاربة لها نطاقها الاجرائي الخاص: المنطق ثابت يعتمد على بيانات كثيفة، في حين أنّ القصة متطايرة تمتاز بالخفة، وقد تعتمد على بيانات قليلة أو حتى قد لا تحتاج أياً منها (تخليق ذهني خالص أو ما يسمى في العادة رواية الافكار Novel of Ideas، المترجمة).
في المقاربة التجريبية: يمكن اقتفاءُ أثر كلّ من القصة والمنطق في عمليات ميكانيكية مختلفة في الدماغ البشري. هذا مكافئ للقول (وعلى خلاف ما ظنّه كثرةٌ من العلماء الادراكيين من قبلُ، ولا زال قسمٌ ضئيل منهم يعتقد به) أنّ الدماغ البشري لا يعملُ كحاسوب. تعتقد الرؤية الحديثة لعمل الدماغ البشري أنّه يعمل جزئياً كحاسوب لأنّ بعضاً من أجزائه التشريحية العصبية (القشرة البصرية مثلاً) تعمل عن طريق التمثلات Representations والوظائف المنطقية الاخرى، لكنّ الدماغ البشري يعمل في معظم فعالياته كماكنة سردية لأنّ واحدة من بين غاياته الرئيسية التي تطوّرت عبر الفعالية الداروينية هي التأثر بالبيئة المحيطة والاستجابة لها بفعل تكيفي مناسب يستفيد من فواعل التغذية الاسترجاعية الحسية (الخبرة). هذا الفعل يتطلبُ تأمّلاً تسبيبياً، أي بعبارة أخرى: يتطلبُ تفكيراً قصصياً.
هذا ما تغافله مُعلّميّ. هُم حسبوا أنّ الذكاء يمكن اختزالُهُ إلى آلية (ميكانيزم) مفردة، وعندما جعلوا تلك الآلية مكافئة للمنطق بات من البديهي أن تُترك للقصة وظيفةٌ وحيدةٌ باقية هي مناقلة الافكار. هذا الامر دفع مُعلّميّ إلى الاستنتاج الصارم بأنّ الوظيفة الوحيدة للقصة هي المناقلة واسعة النطاق لمفاعيل المنطق وتأثيراته بين جمهور يفتقدُ الفطنة والمقدرة لأن يكون جمهوراً من كائنات بشرية تسلك سلوكاً منطقياً بذاتها.
كان مُعلّميّ غارقين في لجّة الثقة المفرطة بهذا الاستنتاج حدّ أنّهم أغفلوا أو تناسوا عقبةً بيّنة: تستطيعُ القصة مناقلة الافكار فقط عندما يمتلك الدماغ القدرة على التفكير بصورة طبيعية (تلقائية) في القصة، وبعكس هذا لن تستطيع القصة التأثير السلس والتلقائي في خلايا المادة الرمادية لأدمغتنا. ما رآه مُعلّميّ طرداً للقصة من مملكة التفكير البشري كان في الحقيقة تأكيداً لتغلغل الشكل القصصي في نظام التشغيل الاساسي للذكاء البشري. هذا النسق هائل التعقيد للتداخل الخلاق بين المنطق والقصة هو ما ساعد البشر على تخليق حبكات قادت إلى الصنائع الابداعية الخلاقة لكلّ شيء في الحضارة البشرية (على المستويين المادي والرمزي، المترجمة): من المصنّعات الفخارية إلى المكائن الطائرة، ومن الديمقراطية إلى الشبكات التجارية العالمية، ومن الزراعة إلى المضادات الحيوية، ومن المنحوتات الفخمة إلى أخلاقيات المعيش اليومي.
هذا الدور القيادي الرائد لفعالية السردية يعني -بين ما يعنيه من تفاصيل كثيرة- أنّ المنهاج الدراسي المُؤسّس على المنطق والذي إعتمدته مدارسنا لعقود طويلة إنما هو قصير النظر لسببيْن على الاقل:
أولاً: لأنّه قلّل إلى حد بعيد من قيمة الكيفية الاساسية التي يفكر بها الكائن البشري بصورة طبيعية، وترتّب على هذا الامر نتائج سلبية عميقة الاثر من حيث مترتباتها الاجتماعية. مأسَسَت المناهج الدراسية القائمة على المنطق الخالص فعالياتنا المدرسية ودفعت بالتلاميذ إلى مهاوي الحيرة، والشعور بالخجل والفشل، وكبحت التنامي المتوقّع للأخلاقيات الرفيعة عندما تعاملت مع التلاميذ بقسوة مفرطة عبر تقييم العقول البشرية بمقاييس الواجبات المطلوب تنفيذها بدقة صارمة مع عدم الحيود عنها. من هذه الواجبات: الحفظ، التفكير النقدي، التعليل الكمي،،،، وهذه كلها واجبات يمكن إنجازها بكيفية أفضل من البشر بواسطة هواتفنا الذكية وحواسيبنا المحمولة. أكّدت المناهج الدراسية أيضاً، وبكثير من الحماسة المفرطة، على الاقيسة المنطقية والكمية والبيانات، وهذا ما ساهم في تعظيم مناسيب تشوّه الشعور بالشخصانية الفردية والكينونة الذاتية Depersonalization، والهشاشة، والاحتراق النفسي،،، وهذه كلها انعكست مفاعيل غير طيبة على اقتصاداتنا وحكوماتنا ونظم الرعاية الصحية لدينا (يشير المؤلف إلى الاضطرابات النفسية المتزايدة التي تسببت بها نظم مناهج التعليم الشائعة، وكانت لها ضواغط شديدة على الاقتصاد والحكومة والنفقات العامة، المترجمة).
ثانياً: تتغاضى المناهج الدراسية الحالية عن التاريخ الطبيعي لتطوّر أدمغتنا البشرية. ذلك التاريخ يشوبه الغموض. هذا صحيح تماماً، لكنْ برغم هذا نحنُ نعلم أنّ التركيبة المنطقية للدوائر العصبية في أدمغتنا البشرية ليست انعطافة تطورية حديثة أطاحت بالتقنية العقلية التي طوّرت القصة وأحاطتها بالرعاية الكاملة على مدى حقب زمنية طويلة. كان للمنطق (للتفكير المنطقي، لا فرق) الكثير من الزمن لكي يضع بصمته المميزة على تطوّر الذكاء البشري، ولو أنّ آليات التطور الدارويني ابتغت طرح القصة جانباً وتركها تذوي بعيداً عن متناول فعالياتنا الدماغية لكان من المنطقي أن يمتلك المنطق الهيمنة الكاملة على أدمغتنا بدلاً من أن يرتضي التعايش مع التفكير القصصي.
تقودُنا هذه الحقائق الاساسية إلى الاقتناع بأنّ الصفوف الدراسية الذكية، وقطاعات الاعمال الواسعة، والمدن الكوسموبوليتانية الواسعة تحتاجُ ما هو أكثر من اتخاذ القرارات القائمة على البيانات الكبيرة، والتصاميم المحوسبة، والامثلية Optimization التنفيذية، وفي الوقت ذاته تستدعي العديد من الاسئلة ذات النكهة التمردية على المواضعات السائدة: ماذا لو أنّ الفلاسفة قدّروا القصة (التفكير القصصي) كما فعلوا مع المنطق؟ هل كنّا سنشهدُ حينها من يحصل على الدكتوراه في الادراك السردي؟ هل كنّا سنشهدُ حينها شركات ناشئة في وادي السليكون تصارعُ لتطوير التقنيات الخاصة بالذكاء الاصطناعي وقطاع الاعمال الملحقة به؟ هل كنّا حينها سنشهدُ المزيد من الادب والمكائن الطائرة والديمقراطية والمضادات الحيوية؟ (يشير المؤلف إلى إشكالية غريبة: ربما لو تعاملنا مع القصة مثلما تعاملنا مع المنطق لخسرنا القوة الذاتية الكامنة في التفكير القصصي، ولجعلنا التفكير القصصي أقرب إلى المهارات الشائعة التي تفتقد العبقرية الفردية والكشوف الذاتية المتفرّدة على المستويين التقني والرمزي، المترجمة).
التفكير القصصي يرتقي بحياتنا
يطمحُ مؤلف هذا الكتاب أن يمثّل كتابُهُ للتفكير القصصي ما سبق أن مثّله كتاب الاورغانون لأسطو في حقل المنطق. أطمحُ في أن يقدّم كتابي هذا تمهيداً فلسفياً يعمل على الارتقاء بالقدرة الفطرية لأدمغتنا في تعزيز التفكير القصصي وتدعيم أركانه بدلاً من جعله يذوي لينتهي في قعر النسيان.
أحد جوانب طموحي في هذا الكتاب أن يكون ذا منفعة شاخصة. لن أدّعي أبداً أنّ بعض مسعاي في الكتاب تقديمُ الحقيقة النهائية للقصة والتفكير القصصي، فذاك المسعى يتطلّبُ قواعد المنطق الصارمة التي لايطالها التغيير فضلاً عن الصياغات الرياضياتية، ولا أظنّ القصة أرضاً خصبة لبذر تلك البذور المنطقية الصلبة. القصة تسعى لتقديم إجابات وقتية لها حد كافٍ Good Enough من القدرة على تناول المعضلات الواقعية في الحياة البشرية. القصة انتقالة من الاجابات المطلقة للمنطق إلى البراغماتية الوقتية للتفكير القصصي.
لم تبرهن هذه النزعة البراغماتية (العملانية) للتفكير القصصي أنّها في مجملها كانت عنصر جذب للفلاسفة، إذ حتى عندما يعتزم الفلاسفة ممارسة شيء من العملانية (على النحو الذي فعله أرسطو مع فن البلاغة، أو ما فعله ويليام جيمس لاحقاً مع الابستمولوجيا"أصل المعرفة ونشأتها") فإنّ لهم (الفلاسفة) عادةَ جعل الممارسة سياقاً تجريدياً منطقياً صارماً، وعكسُ هذا الامر يصحُّ أيضاً: الناس ذوو التوجهات الفلسفية الضحلة يطوّرون في أنفسهم سخرية دفينة من الاقيسة المنطقية ومترتباتها الصارمة. مع هذا الحال يمكن للقصة أن تكون ميداناً يلتقي فيه الاثنان (العملانية المتشدّدة والنزعة الفلسفية-المنطقية الصارمة) لتكونا شراكة تخدم مسيرة الارتقاء البشري. يمكن لهذه الشراكة أن تمضي بالعمل المواظب حتى نبلغ طوراً تصبح معه حياتنا يوتوبيا منطقية- وتلك يوتوبيا ليست مرغوباً فيها ولا ممكنة من جانب الانواع البيولوجية. فعالياتنا الدنيوية ليست مصممة لتنهض بأعبائها وحلّ معضلاتها الاقيسةُ المنطقيةُ فقط بل تستلزم مزيجاً متناسقاً من القدرة على حلّ المشكلات Problem Solving والابتكارات التطبيقية، وستبقى هذه القدرة المحرّكات الدافعة للبقاء الجسدي والازدهار العقلي.
مع الارتقاء المستدام بتفكيرنا القصصي نستطيع أن نجعل حيواتنا الارضية أكثر مناعة ضد الهشاشة والانكسار، وأكثر صحّة جسدية ونفسية وذهنية، وأكثر سعادة. مع تحسّن ممارسة الادراك السردي نستطيع دفع الغاية الاساسية من الفلسفة إلى آفاق أبعد. لا أظننا سنتخالف بشأن أنّ الغاية الاساسية من الفلسفة هي "بلوغ حياة طيبة". لنتذكّرْ دوماً أنّ "طيبة" نعني بها "أفضل الممكن هنا والآن"، اما "الحياة" فنعني بها "الوجود البيولوجي منذ بواكير الولادة مروراً بكلّ أطوار النمو المتعددة".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram