قد يرى البعض ما أجزم به، حول لا شرعية للبرلمان العراقي، أنه بلا سند قانوني أو دستوري يزكيه، ولا مرجعية فقهية له، إلهية كانت أم وضعية!
وأقول للمشرعين ورجال القانون الذين يجزمون بأن مثل هذا الرأي باطل، أو يفتقر لإسناد على كل المستويات القانونية، أن الدستور العراقي، وكل دساتير العالم تفند هذا البطلان. لأنه من الغرابة بحيث يصعب أن يخطر في بال مشرع، وهو يكتب نصاً دستورياً أو قانونا تشريعياً كقانون الانتخابات على سبيل المثال.
نعم، إن الدستور العراقي عالج الاستقالة الفردية من عضوية البرلمان، بتعويضه بالمرشح التالي من حيث عدد الأصوات التي نالها في الانتخابات. ولم يشر إلى ما إذا كانت الاستقالة لنائب واحد أم لأعداد كبيرة أو محدودة. وهو –أي الدستور العراقي- لم يتوقف عند حالة استقالة جماعية تتمثل في كتلٍ متناثرة أو كتلة كبيرة، ناهيك عن الكتلة الأكبر في البرلمان.
ومن اللافت والمثير للتساؤل والاستغراب، أنه من غير الوارد أن يخطر في بال أحد، سواء كان سياسيا أو مركزا بحثياً على سبيل المثال، أن هناك احتمالاً بأن الكتلة الأكبر في مجلس النواب، من حيث العدد والتمثيل الشعبي، هي التي تتقدم بالاستقالة الجماعية، وبقرارٍ من زعيمها السياسي ومرجعها الروحي، الذي طلب من كل عضوٍ في الكتلة، تقديم استقالته فردياً من عضوية البرلمان!
وعلى كل عاقلٍ أن يتساءل مع نفسه، ويسأل كل مشرّع وقانوني وفقيه دستوري، هل يمكن أن يتصور أنه قد يواجه مثل هذا الاحتمال أو الحالة "الشاذة"، لكي ينص عليها في الدستور، أو يتناولها في القوانين النافذة المطلوب إقرارها، في قانون الانتخابات مثلاً؟
هل هناك أي دستور في العالم المتحضر والمتخلف معاً، شهد مثل هذه الحالة التي تلغي إرادة أكبر كتلة انتخابية "شعبية"، وتجردها من خياراتها الحرة في كل ما يتعلق بوجهة تطور بلادها وسيادتها وأمنها وحرياتها الخاصة والعامة وقضاياها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ونهجها السياسي الوطني؟
ومن المتعذر ان تتضح خطورة مثل هذه الاستقالة، وتتجسد بكل نتائجها، إلا إذا انتهينا إلى أنها شملت ٧٣ عضواً في البرلمان، جرى تعويضهم من المرشحين الخاسرين الأدنى أصواتاً، الذين ينتمي معظمهم إلى كتل تحمل مشاريع سياسية ومواقف مخالفة لمشروع ونهج الكتلة الفائزة المستقيلة! ما يشكل التفافاً على إرادة الناخبين المعبر عنها ديموقراطيا. وهو ما أدى إلى استيلاء مرشحي الطرف الآخر الذي فشل حتى في تشكيل "الثلث المعطل" - وهي البدعة المستوردة من لبنان - دون كسب أصوات من المكون السني والكردي.
ومكّنت تلك الاستقالة لكتلة التيار الصدري، بأمر من زعيمها ومرجعها الروحي، قوى الإطار التنسيقي التي لم تكن تحلم بالهيمنة المطلقة على البرلمان والسلطة التنفيذية، وبسط نفوذها الكامل على الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، وأطلقت العنان لميليشياتها وسلاحها المنفلت بالتوسع وإحكام السيطرة على البيئة السياسية، كأدوات ترويعٍ وتهديد وانتهاك للمواطنين لا رادع لها، ولكل ما يتنافى مع حَصَانَة الدولة وسيادتها وحريات المواطنين!
وأصبح الإطار التنسيقي، المهيمن على القرار، بينما هو لا يمثل في واقع الحال سوى أقل نسبة من عدد المشاركين في الانتخابات. ويمكن التأكد من هذا التمثيل الضئيل "مع ما شاب العملية الانتخابية من انتهاك وتجاوز"، بملاحظة أن ٨٠٪ من الناخبين في الجنوب والفرات والوسط (أي في المناطق الشيعية من حيث الكثافة السكانية)، قد استنكفوا من المشاركة، وقاطعوا الانتخابات كتعبيرٍ صارخٍ عن معارضتهم للمنظومة المهيمنة على السلطة باسمهم "زوراً"، بعد أن عبروا عن هذه المعارضة، سلمياً في الحركة الاحتجاجية الباسلة تحت راية انتفاضة تشرين. وقامت الجماعة الحاكمة وحكومتها وأجهزتها وميليشياتها، بقمع الانتفاضة التشرينية ومواجهة شبابها المحتجين بالرصاص الحي وقنابل الدخان المميتة، وبالاغتيال والتغييب القسري، حتى راح ضحيتها مئات الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين. وبينما الأغلبية المطلقة من المشاركين في الانتفاضة، والشهداء والضحايا، ينتسبون الى المناطق "الشيعية". وأن أكثر الاحتجاجات زخماً واستنهاضاً وبسالة، تفجرت في تلك المناطق، وبشكل خاص في كربلاء والنجف والناصرية وبغداد!
قد يصر البعض على التمسك بالغطاء القانوني لتبرير الكيفية التي جرى فيها التعامل مع الاستقالة الجماعية للكتلة الأكبر من البرلمان بإحلال الخاسرين بـ " أقل الأصوات "، فالبرلمان يبقى "معدوم الشرعية الشعبية " بالمطلق، مما يجعل قرارت الدورة البرلمانية الحالية وتشريعاتها "باطلة" ومعدومة الشرعية، لا تعبر عن ارادة العراقيين، وشكلت خرقاً فظاً لأصوات الناخبين وعبثت بصناديق الإقتراع. مما يفترض بالضرورة، أبطالها في البرلمان القادم، واتخاذ كل ما يلزم من تدابير واجراءات قانونية وإدارية تصحيحية بحق المتسببين بهذا الخرق والتجاوز على ارادة العراقيين، الذين تم تجريدهم من الحقوق الديمقراطية، عبر تمكين الخاسرين دون "شرعية شعبية" من اختطاف عضوية البرلمان، والهيمنة على السلطة السياسية والإمعان في تشويه ما تبقى أو سُمي بــ"العملية السياسية" و "دولتها الفاشلة"!
قد يرى البعض ان ما جرى كان مما لابد منه للحيلولة دون انزلاق البلاد إلى متاهات الفوضى والمواجهة المسلحة، او حتى لتهديد من "طرف خارجي" يرفض تغيير ما يراه من معادلة مقبولة لتوازن القوى في "البيت الشيعي".
ليس لما جرى أي تبرير مشروع يصادر حق العراقيين في خياراتهم الديمقراطية. وكان الخيار الوحيد المشروع لـ "الحالة الشاذة" غير المتوقعة هو اعتماد "العرف"، بدلاً من الغطاء القانوني الملتبس، لإبطال شرعية التعويض بالخاسر، عبر الدعوة لإجراء انتخاباتٍ مبكرة. وفي اسوء الاحوال اعتبار البرلمان، كما الحكومات التي تواجه مثل هذه المثلبة، «برلمان تسيير أعمال»، لا حق له بإقرار اي تشريع او قانون يمس الثوابت والقضايا الإستراتيجية، كما حدث الثلاثاء الماضي، في تمرير تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم ١٨٨، وجعل دورته لا تتجاوز الفترة المطلوبة للتحضير إلى انتخابات مبكرة.
أن العراقيين الذين خرجوا، وهم يرفعون شعار "نريد وطن"، عليهم أن ينهضوا اليوم، ومعهم كل وطني يبحث عن كرامته ومستقبل بلاده سيداً، تحت شعار: "برلمان باطل، وطغمة فاقدة الشرعية"!
برلمان فاقد الشرعية.. وسلطة مطعونة ومنتهية الصلاحية!
[post-views]
نشر في: 23 يناير, 2025: 06:37 م