TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: كسل وغباء "رأس المال" العراقي

قناطر: كسل وغباء "رأس المال" العراقي

نشر في: 27 يناير, 2025: 12:03 ص

طالب عبد العزيز

لم يشهد العراق، ومنذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 نهضة تجارية كالتي يشهدها الآن، ولم تزدهر اسواقه بالبضائع المستوردة وبكل أنواعها الضرورية والكمالية ومن المناشئ العالمية كالذي تعج وتضجُّ بها اليوم، ولم يتسن للمواطن العراقي العراقي الحصول على ما يريد في حياته ومكملاتها كما تسنى له اليوم، وبمطلق القول هناك فائض معروض، وطلب متزايد، ولم يعد العراقي يتحسر على كثير كان يفقتده من قبل، وهذه واحدة من حسنات التغيير، التي صبّت في صالحه، سواء أكان مقتدراً على الدفع بالنقد أو بالآجل، حتى صرنا نشهد ضآلة حجم الفوارق التي كان يمتاز بها عليه المواطن الخليجي مثلاً.
كنتُ مساء أمس حاضراً في حفل افتتاح إحدى الشركات التجارية في البصرة، صحبة أحد الأصدقاء من صغار التجار، وقد حضر وجهاء المدينة بينهم مستثمرون، ورجال أعمال، وشيوخ عشائر، وأصحاب شركات كبيرة وصغيرة في مشهد زانته الأضواء، وعلى الطاولات الجميلة كان المدعوون يتناولون الشوكلاته والقهوة فيما كان طاقم الخدمة يوزع الهدايا على الحاضرين، ضمن أجواء اكتنفتها مظاهر المدنية والتحضر، حتى لتشعرنا بأننا نعيش نقلة نوعية في الاحتفال بمناسبات كهذه، في مدينة تفتقد الى كثير من الممارسات الجميلة، على الرغم من أنها كانت واحدة من حواضر الشرق ذات يوم.
قد يكون المواطن البسيط غير معنيٍّ بمثل هكذا فعاليات، وربما كان السواد الأعظم من الذين يمرون بسياراتهم في الشارع، حيث أقيم الحفل يرون في الحفل الجميل ذاك ترفاً، وبذخاً، واستعراضاً للثراء لا غير، بل وقد يقول غيرُ واحدٍ بأنَّ الطبقة الجديدة تستفزنا بما بين ايديها من وفرة في المال، وقدرة على انشاء الشركات، والعلامات التجارية، فيما نحن نكابد صروف الحياة، والى غير ذلك، لكننا، ومن وجهة نظر اقتصادية وتسويقية نجد أنَّ أفعالاً مثل هذه حاجة وضرورة، ولإشاعتها بين الطبقات أكثرُ من مردود ماديٍّ وحضاري، لأنها تسهم في تأسيس المجتمع، وترفد تحولاته، وتفتح الآفاق عريضةً لإنشاء الطبقة الأولى، التي هي في حقيقة الأمر قوام الاقتصاد، ولا بدَّ من وجودها في توجيهه، إذْ لا مجتمع حقيقي بدون طبقات، وعدم عناية المواطن البسيط بالحفل لا تقلل من شأنه، ولا توقف حركة التحولات.
لكنْ ما يعوز الطبقة الجديدة على الرغم مما تتمتع به من نفوذ ماليٍّ وسياسيّ أحياناً هو أنها لا تمتلك تصوراً مادياً وفكريا، عمّا يجب أن تضطلع به من دور في بناء الدولة، بمعنى آخر هو غياب الفلسفة في التخطيط والتنفيذ وتوجيه المال، بما يؤسس للحياة، بل وعدم درايتها بأنها هي التي تقود عجلة التحولات، لا السلطة السياسية، وإذا كان الاقتصاد العراقي اليوم قد انتقل من السوق الاشتراكية واقتصاد الدولة الى اقتصاد المؤسسات والرأسمال وهذا ما هو واقع في اقتصاديات عربية وعالمية كثيرة لذا يتوجب على نخب المال أن تفكّر ملياً بدورها التأسيسي، الذي تضطلع به. ما يحدث في مناسبات كهذه هو عبارة عن تمظهرات لا غير، ولا تستند على قاعدة واعية مدركة، فالقاعة بالطاولات والنشاط الاجتماعي وأناقة الحاضرين والعروض الجانبية لحركة المحتفلين لا تفصح عن طبقة راقية بمعنى الرقي، هي تملك المال حسب، والمال ما لم يوجه فلسفياً لا ضمان لمضاعفته، والنجاح لا يعني أن تبيع أكثر.
التحولات الكبيرة التي حدثت في المجتمعات الأوربية والآسيوية لم تقم بإرادة سياسية فقط، إنما قامت بفعل حراك فلسفي ورؤى معمقة وأفكار ديناميكية للطبقة الأولى. نستطيع القول بأنَّ طبقة أصحاب المال في العراق اليوم هي طبقة غبيّة، فهم حمّالون لأموال طائلة، لا أصحاب قرارات، من شأنها بناء الاقتصاد، والمريع في الامر أنَّ نسبة كبيرة منهم شركاء في صناعة القرار السياسي، لكنهم أميّون، وليس بينهم من يستشعر دوره بشكل حقيقي، وهم أبعد ما يكونون عن التمدن والتحضر، وإن ارتدوا أفخر الثياب، وصعدوا أحدث السيارات، وبنوا القصور، واشتروا البساتين، وإن سافروا بجوازات حمر، وإن تفننوا في إغواء النساء وبناء المضافات…. هؤلاء في الأخير يرون أنَّ دورهم وحضورهم الحقيقي إنما يكمن في وقوفهم على رأس القائمين في المناسبات الاجتماعية والدينية ومواكب العزاء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram