TOP

جريدة المدى > سياسية > من الرعاية إلى العزلة.. هل تكفي جهود المجتمع لإنقاذ الأيتام؟

من الرعاية إلى العزلة.. هل تكفي جهود المجتمع لإنقاذ الأيتام؟

حقوق منسية في أروقة السياسة

نشر في: 28 يناير, 2025: 12:18 ص

 بغداد / تبارك عبد المجيد

يعاني العديد من الشباب الذين نشأوا في دور الأيتام من مصير صعب بعد بلوغهم سن الثامنة عشرة، حيث تُجبرهم القوانين على مغادرة هذه الدور عند بلوغهم هذا العمر، ليواجهوا مستقبلاً غير واضح. بينما ينجح بعضهم بالاندماج في المجتمع عبر الحصول على فرص عمل أو مواصلة تعليمهم، إلا أن الكثير منهم يجدون أنفسهم في الشوارع، عرضةً للتشرد والاستغلال.
تواجه هذه الفئة تحديات عديدة بعد مغادرتها الدور، حيث يفتقرون إلى الدعم الاجتماعي والنفسي اللازم للاندماج بشكل فعال. قلة من المنظمات الاجتماعية تقدم الدعم المستدام لهم، كما أن الحكومة تفتقر إلى برامج تأهيلية واضحة تضمن لهم حياة مستقرة ومستقبلًا أفضل. إضافة إلى ذلك، تعامل هذه الشريحة كملف "سياسي" يستخدم في الدعايات الانتخابية.
مع غياب اهتمام الدولة بدور الأيتام، تتفاقم معاناة هؤلاء الأطفال والشباب الذين تُركوا ليواجهوا مصيرًا مليئًا بالمخاطر. الناشطة مرح إياد تلخص المشكلة بقولها إن "جوهر الأزمة يكمن في إهمال الدولة"، حيث إن العديد من دور الأيتام لم تشهد أي تحديث منذ إنشائها في عهد النظام السابق.
تضيف إياد لـ(المدى)، أن "العدد القليل لهذه الدور لا يكفي لتلبية احتياجات الأيتام الذين زادت أعدادهم بشكل كبير بسبب الحروب والإرهاب. الأكثر إثارة للقلق، بحسبها، هو افتقار الدولة إلى إحصائيات دقيقة عن عدد الأيتام، مما يعوق أي محاولات لوضع خطط مدروسة لمعالجة هذه الأزمة المتفاقمة".
وتكشف إياد عن ظاهرة مقلقة للغاية، حيث أصبحت العصابات المنظمة تستغل الوضع الهش لهؤلاء الشباب. هؤلاء الأيتام، الذين يعيشون على هامش المجتمع، يتم استدراجهم للعمل في التسول، تجارة الجنس، وحتى في أنشطة إرهابية. وتشير إلى أن "العصابات توفر لهؤلاء الشباب السكن والمواصلات، بل وتقوم بتدريبهم على تقديم روايات مزيفة أمام القضاء في حال القبض عليهم، مما يجعل من الصعب كبح هذه الجرائم".
رغم وجود مقترحات وحلول قُدمت إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، مثل تعيين الشباب الخارجين من دور الأيتام في وظائف داخل هذه الدور، أو دعمهم لإكمال دراستهم وفتح مشاريع خاصة بهم، إلا أن الإهمال المستمر حال دون تنفيذها.
ورغم وجود مئات المنظمات التي تعمل تحت شعار رعاية الأيتام، تكشف إياد عن استغلال هذه القضية من قبل بعض هذه المنظمات لجمع الأموال لأغراض شخصية. كما لفتت إلى أن "سياسيين استغلوا مأساة الأيتام في حملاتهم الانتخابية، بينما بقيت الحكومة بلا رؤية واضحة لإيجاد حلول عملية ودائمة لهذه الأزمة".
إياد ترى أن "العديد من الشباب الخارجين من دور الأيتام يمتلكون مواهب وطاقات يمكن أن تشكل "كنزًا للدولة" إذا ما تم استثمارها بشكل صحيح. إلا أن هذه الطاقات تبقى مهدرة، وسط إهمال محلي ودولي واضح. حتى المساعدات الدولية التي قُدمت لدعم هذه الفئة لم تحقق أي أثر يُذكر، حيث اختفت دون أن تُترجم إلى برامج فعلية".
فيما يتعلق بالإجراءات القانونية لإيواء الأطفال في دور الأيتام، توضح إياد أن العملية تبدأ بتقديم طلب رسمي من ذوي الطفل، مصحوبًا بالوثائق المطلوبة. تُدرس الحالة من قبل باحث اجتماعي، مع ضرورة أن يستوفي الطفل شروطًا صارمة، مثل أن يكون عراقيًا أو فلسطينيًا مقيمًا في العراق، خاليًا من الأمراض المعدية، وألا يتجاوز عمره 18 عامًا. يشترط أيضًا أن يكون الطفل يتيم الأب أو الأم أو كليهما، مع وجود قرار قضائي من محكمة مختصة.

غياب الأسرة وتأثيره العميق
هاشم الرماحي، مدير إحدى دور الأيتام، يتحدث عن الأسباب الرئيسية التي تدفع إلى ازدياد أعداد الأطفال في هذه المؤسسات. يقول الرماحي لـ(المدى)، إن "العوامل الاقتصادية تأتي في المقدمة، بالإضافة إلى التفكك الأسري، وقلة الوعي لدى الأسر حول أهمية رعاية وتربية أطفالهم بشكل صحيح".
يرى الرماحي، أن "غياب الأب أو الأم، أو كليهما، يؤدي إلى إهمال الأطفال، مما يجعلهم عرضة للضياع أو الانتهاء في دور الأيتام"، ويشدد على أن "هذه المؤسسات تحاول سد هذه الفجوة بتقديم رعاية شاملة، تشمل الجوانب النفسية، الاقتصادية، والاجتماعية، إلى جانب التعليم والترفيه"، الهدف الأساسي، كما يوضح، هو إعداد هؤلاء الأطفال ليصبحوا أفرادًا فاعلين ومندمجين في المجتمع.
رغم الجهود المبذولة، تواجه دور الأيتام تحديات كبيرة، أبرزها قلة الدعم الحكومي. يشير الرماحي، إلى أن "هذا النقص في الدعم يحد من قدرة هذه المؤسسات على أداء مهامها بالشكل المطلوب"، ويضيف أن "التحدي الأكبر يكمن في تربية الأطفال وتنشئتهم بطريقة صحيحة، ليكونوا أفرادًا منتجين قادرين على خدمة أنفسهم والمجتمع".
فيما يتعلق بالتبني، يوضح الرماحي أن "القانون العراقي ووفقاً للشريعة الإسلامية لا يسمحان بالتبني الكامل، لكن هناك نظام "الضم"، الذي يتيح للعائلات رعاية الأطفال الأيتام مع الاحتفاظ بأسمائهم الأصلية. يُشرف قاضي محكمة الأحداث على هذه العملية لضمان توفير بيئة آمنة ومستقرة للطفل، ما يمنح الأطفال فرصة للعيش ضمن إطار عائلي مع الاحتفاظ بهويتهم القانونية.
تعمل دار الأيتام التي يديرها الرماحي على توفير بيئة شاملة للأطفال، من خلال مربيات متخصصات يتولين متابعة احتياجاتهم اليومية، ومعلمين يركزون على تعليمهم. كما تتعاون الدار مع باحثة اجتماعية لتعديل سلوك الأطفال، وضمان تنشئتهم في بيئة تربوية سليمة.
يتابع الرماحي حديثه بالقول: "كل طفل في دار الأيتام يحمل قصة مختلفة، وكل قصة تعكس وجعًا خاصًا. رغم ذلك، نبذل أقصى جهودنا لتقديم أفضل رعاية ممكنة لهؤلاء الأطفال، على أمل أن يصبحوا أفرادًا فاعلين في المجتمع، يساهمون في بنائه بدلًا من أن يكونوا عبئًا عليه".
فوفقًا لتقديرات منظمة اليونيسيف، يشكل أيتام العراق نسبة 5% من إجمالي الأيتام في العالم. ومع وجود 22 دارًا فقط لرعاية الأيتام، تبرز فجوة كبيرة بين احتياجات هؤلاء الأطفال والقدرات المتاحة لتوفير حياة كريمة لهم.
يوضح الناشط السياسي علي القيسي لـ(المدى)، أن عدد دور الأيتام وتجهيزاتها لا يتناسب مع الأعداد الكبيرة للأيتام والمشردين في العراق. ويضيف أن هذه الدور تعمل ضمن إمكانيات محدودة للغاية، حيث تعاني من غياب الدعم الحكومي الفعلي وضعف اهتمام المؤسسات الإنسانية، التي غالبًا ما تكتفي بـ"الحملات الإعلامية" دون تنفيذ خطوات حقيقية على أرض الواقع.
ويحذر القيسي من استمرار الإهمال لهذه القضية قد يؤدي إلى كارثة إنسانية واجتماعية. مشيراً إلى جهود مبذولة من قبل بعض منظمات المجتمع المدني لافتتاح دور جديدة لإيواء الأطفال المشردين، لكنها تصطدم بنقص المراقبة والرصد الحكومي، إلى جانب غياب التطوير اللازم لضمان استدامة هذه المبادرات.
تشكل المرحلة التي تلي خروج الأطفال من دور الأيتام تحديًا كبيرًا. فكما يوضح القيسي، فإن غياب الدعم المستدام والخطط التأهيلية يجعل الكثير من هؤلاء الأطفال عرضة للضياع، سواء بسبب عدم القدرة على الاندماج في المجتمع أو السقوط في فخ الجريمة والانحراف. ويضيف أن "هناك جانبًا آخر من المشكلة، يتمثل في امتلاء دور الأيتام بأطفال لديهم أهل على قيد الحياة، لكنهم يعانون من الإهمال الأسري أو العجز عن توفير احتياجاتهم الأساسية".
مع تزايد أعداد الأيتام نتيجة الحروب والإرهاب، بات من الضروري أن يكون هناك تدخل حكومي ومجتمعي فعّال لإعادة تأهيل هؤلاء الأطفال وحمايتهم من التشرد والاستغلال. ويتطلب ذلك وضع خطط مستدامة تهدف إلى تحويل هذه الفئة من عبء اجتماعي إلى قوة فاعلة تسهم في بناء المستقبل، اضاف القيسي.
واكد، إن "الرعاية الحقيقية لا تقتصر على إيواء الأطفال فقط، بل تمتد إلى تعليمهم وتأهيلهم ودعمهم نفسيًا واجتماعيًا، بما يضمن لهم حياة كريمة تليق بإنسانيتهم وتجعلهم عناصر إيجابية تخدم المجتمع".

"ملف سياسي"
يرى المحلل السياسي أحمد الياسري أن ملف الأيتام في العراق قد تحول من "قضية إنسانية واجتماعية إلى قضية سياسية بامتياز"، وأوضح أن هذا "التحول جاء نتيجة التغيرات الكبيرة التي طرأت على المجتمع العراقي بعد عام 2003، حيث تشكّلت كتل اجتماعية جديدة وأفرزت تحديات غير مسبوقة".
أشار الياسري لـ(المدى)، بأن "الأيتام في العراق لم يحظوا بالاهتمام اللازم من الدولة، بل إن الحكومة والكتل السياسية تتعامل مع هذه الشريحة وكأنها عبء غير شرعي أو فئة مهمشة، تشبه في وضعها اللاجئين غير الشرعيين في الدول الغربية". وأضاف أن الدول الغربية، على الرغم من تعاملها مع قضية اللاجئين كملف سياسي، تقدم لهم الدعم الإنساني والاقتصادي من خلال منظمات ورجال أعمال ومبادرات مجتمعية، وهو ما يفتقر إليه العراق بشكل كبير.
وتابع الياسري، أن "تقصير الدولة العراقية في هذا الملف يُظهر غياب الرؤية الستراتيجية لمعالجة قضايا الأيتام"، مشيرًا إلى تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان التي أكدت معاناة هذه الفئة. وأكد أن الأيتام الذين يعيشون ظروفًا قاسية ويُتركون للتسول في الشوارع قد يتحولون في المستقبل إلى "قنابل موقوتة"، بفعل غياب الرعاية وتراكم الإحباط والظروف الصعبة.
واقترح الياسري ضرورة إقرار تشريع واضح يُلزم الدولة بحماية الأيتام وتوفير الرعاية اللازمة لهم، بما يشمل التعليم، السكن، والتأهيل الاجتماعي والنفسي. كما دعا إلى إنشاء مؤسسات متخصصة تتولى هذه المهمة، بدلًا من تركها للمبادرات الفردية والمنظمات الأهلية.
أشار الياسري إلى أن الاهتمام بمثل هذه القضايا يُعتبر مقياسًا لجودة الديمقراطية في العراق، حيث لا تقتصر الديمقراطية على الانتخابات فحسب، بل تشمل أيضًا حماية الفئات الهشة وضمان حقوقها. واعتبر أن معالجة ملف الأيتام بشكل منهجي ومؤسسي هو أحد أساسيات بناء مجتمع متماسك وآمن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

(المدى) تكشف تفاصيل
سياسية

(المدى) تكشف تفاصيل "التسوية" مع الفصائل.. العين على رئاسة الحشد!

بغداد/ تميم الحسن تستعد فصائل عراقية مسلحة لديها أجنحة سياسية لـ"سيناريو التسوية" إذا نفذ ترامب (الرئيس الأمريكي) تهديداته.ويتوقع أن يوجه دونالد ترامب عقوبات اقتصادية وربما عسكرية ضد "الفصائل" بسبب ارتباطها بإيران.ولمواجهة هذه الفرضية، تنخرط...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram