TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: عن اليوميات الغائبة في ثقافتنا

قناطر: عن اليوميات الغائبة في ثقافتنا

نشر في: 29 يناير, 2025: 12:03 ص

طالب عبد العزيز

يقول ايكو:" التواضع ليس صديقا للخلق" وفي الامس كان الفرنسي غيوم ميسو قد أوهمني بأنَّ كتابه (حياة الكاتب السرية) إنما هو كتاب مذكرات، وشيئا فشيئاً علمت بأنني أقرأ في رواية له! بين ايكو الذي يجعل التواضع في مرتبة السوء وميسو الذي أوهمني بروايته أجدني أقول بأنَّ كتابة المذكرات من أعمال الكاتب اليومية، وعليه أن يفصح عن كثير يجهله القارئ عنه، وأن يترك ما يراه عيباً وقبيحاً وراء ظهره لأنه الى زوال، ولن يتحمل أحدٌ وزر حياته إلا هو. فليكتب ما يراه ويعتقده، بل وما يجعل منه صادقاً في صفحات وإن كانت قليلة.
شخصياً،وفي جزء مما أحاول تدوينه كمذكرات، شبه يومية، أنني أكتب ما تناثر عنّي في اليوم من وقائع ثانوية، لا قيمة لها، تقع خارج الكتابة بالثقافة والفن، في هروب واضح من الغوص في التفاصيل، ذات التماس المباشر بحياتي في الشعر والدين والسياسة وموجبات الكتابة وأسباب ضجري اليومي، والحصار الذي تفرضه الاشترطات الاجتماعية والدينية، وهائذا انشطر يومياً، بعيداً عن مشروعي الشخصي في التدوين والتناول الحقيقي في الكتابة. أشعر بضياع وفقدان الكثير من القصائد والمشاريع الكتابية بالغة الاهمية، لعلمي بأنني لو كتبتها ستكون إرثاً سيئاً للعائلة، وقد أضع نفسي وأسرتي في الموضع السيء إجتماعياً ودينياً، هذا إذا لم اعرضهم لخطر حقيقي.
لكن، هل أجرؤ على أنْ أقول برأيي في المقدس والكتب السماوية والموروث الديني؟ هل أسمّي الرجال والنساء الذين يستحقون مني الاجلال مرةً والاذلال مرة أخرى؟ هل يتسنى لي الحديث عن الكتب التي قراتها ووجدتها تافهة، لا تستحق الوقت وآلام الرقبة وكلل العين، ولا استثني المقدس منها، أو التي خطّها الكبار المحترمون وغير المحترمين، بمثل هذه وتلك كم سيتوجب عليّ أن اجاهر بمحبة وكراهية من مروا بحياتي كراماً او إذلاء. لماذا لا تبدو الحياة في شرقنا المتوسطي بأكثر من طعم ولون ورائحة، ولماذا تظل صورة ما أُطْلِعْنا عليه ذات يوم نمطية حتى النهاية، وهذا الكون يضطرب ويتغير كل ساعة.
من السخف ان يظل المفكر والشاعر والفنان أسير قيده الاجتماعي- الديني، على حساب حياته في صناعة وترسيخ قيم الجمال، في المدينة حيث اعيش، هناك أكثر من موسيقي وشاعر وفنان وممن يدعون الاشتغال في الثقافة، لكنهم أين؟ صامتون، منزوون. الموسيقي يخجل من حمل آلته، والشاعر يحرص على حضور المناسبة الدينية، ويمتدح رجل الدين ويفرح إذ يرحب به في مجلس السياسة، وإذا بالغ بشجاعته ذهب الى طلاسمه واحاجيه، لا يقترب من المتن ولا يريد أن يسقط في الهامش، كذلك يفعل المثقف (العضوي) والاستاذ في الجامعة واغلب المشتغلين في الوعي. هناك أكثر من شيء يُطمس في حقيقة وجودنا كنخب مثقفة، نحن غير أمناء على ما أستودعنا.
يا للسخف، انا أيضاً كتبتُ عن المطر الذي تأخر السنة هذه، وكتبتُ عن الريح التي لم تعصف قويةً بالنخلة الطويلة، خلف داري على النهر، وكتبتُ عن صيادي السمك بالفاو، الذين خذلتهم نشرة احوال الطقس، أنظروا، لم اكتب عن مهربي النفط في الميناء الذي مروا به، في طريقهم الى البحر، لكنني، لم أكتب عن مقاتل البصريين الذين سقطوا في تظاهرات تشرين بساحة البحرية، ولم أكتب عن المراة التي كنتُ رفقتها ذات يوم، في القطار الصاعد الى بغداد، وقد سرق الجنود حقيبتينا، لم أكتب عن شعرها الليلي الطويل، عن صدرها بحلمتيه الداكنتين،عن ساقيها، وهما يضطربان تحتي غلمةً وشبقاً، يا للخيبة، لم أقل بأنهما جديران بالإحتضان والقبل الى اليوم، وقد مضت السنوات.
ما لم نكتب عن حقيقتنا في الحب والخمرة والنساء لن يكون لوجودنا معنى هنا. أيها السيد ستاندال، لقد فقدت كتابك (الاحمر والاسود) في الحقيبة التي سرقها الجنود ايضاً، فقدت جوليان سوريل، الذي طالما حلمت أن أكونه، لكنني مازلتُ أحتفظ بالمرأة الحبيبة التي أنفقتُ الليلَ معها في عربة القطار الصاعد الى بغداد قبل أكثر من أربعة عقود.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

كتائب القسام تعلن "استشهاد" قائدها محمد الضيف

ترامب: لم ينج أحد من حادث اصطدام المروحية وطائرة الركاب قرب مطار ريغان

"الاتفاق غائب".. تعديل الموازنة يدفع الى انقسام نيابي

برشلونة يعلن رسميا تجديد عقد بيدري حتى 2030

مكتب السيستاني: يوم غد الجمعة هو الأول من شهر شعبان

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جيوب نظيفة!!

العمود الثامن: بروتوكولات مقهى ريش

العمود الثامن: الفشل بامتياز

قناطر: كسل وغباء "رأس المال" العراقي

عن التقاطع التنموي في المشهد السياسي

العمود الثامن: القاهرة واستذكار بغداد

 علي حسين تقيم معظم البلدان متاحف لفنونها وحضارتها، ومتاحف اخرى تحتفظ فيها بكنوز الفن العالمي، لكي تذكّر الأجيال القادمة بالذين نثروا ألوانهم وأقاموا النصب المرمرية، لأن الذاكرة البشرية بحاجة إلى تذكّر ان التاريخ...
علي حسين

كلاكيت: عدي رشيد في «أناشيد آدم» سعي للنهوض بوعي المتلقي من أجل إثارة الأسئلة

 علاء المفرجي تأريخ السينما العراقية طويلا قياسا الى مثيلاتها باقي شعوب المنطقة، فالسينما العراقية لم تبدأ بالإنتاج إلا في منتصف الأربعينيات، ولم يكن الإنتاج الأول، إلا انتاجا مشتركا مع مصر، ولم تستطع منذ...
علاء المفرجي

المنظومة السلطوية في العراق والتغيير المطلوب

د. كاظم المقدادي (2-2)التغيير الجذري ضرورة اًنية وملحةمطلب التغيير الجذري والشامل للمنظومة السلطوية في العراق، الهادف لأقامة الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والعدالة الإجتماعية،الضامنة للحياة الحرة الكريمة والمستقبل الأفضل لكافة أبناء وبات شعبنا، دون...
د. كاظم المقدادي

الشُّعوبيَة والشّعبويَّة.. لكلٍّ زمنه

رشيد الخيون يعيد اِصطلاح "الشَّعبوبيَّة" اليوم إلى الأذهان الحركة "الشُّعوبيَّة" في الأمس البعيد، مع أنَّ كلاً له زمنه ودلالته، كلاهما منحوتان مِن "الشَّعب" و"الشُّعوب". نَعتَ البعضُ بالشَّعبويَّة الرئيسَ الأميركيّ دونالد ترامب، في حملته الانتخابيّة...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram