علاء المفرجي
تأريخ السينما العراقية طويلا قياسا الى مثيلاتها باقي شعوب المنطقة، فالسينما العراقية لم تبدأ بالإنتاج إلا في منتصف الأربعينيات، ولم يكن الإنتاج الأول، إلا انتاجا مشتركا مع مصر، ولم تستطع منذ السنوات التي بدأت بها الإنتاج، أن تفرض حضورا في المشهد السينمائي أقله العربي، سوى ببعض الأفلام الروائية، التي لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.
ورغم تبني قطاع الدولة العام، مهمة الإنتاج ابتداء من ستينيات القرن المنصرم، وحتى توقف الإنتاج بدية التسعينيات، إلا أن ذلك لم يستطع أن يسهم في خلق سينما عراقية متقدمة.
بعد عام 2003 بدأت صفحة جديدة في مسيرة هذه السينما، وهي انعطافة ثورية، ذلك أنها استفادت من فضاء الحرية الذي ساد بعد انهيار النظام السابق، وتوالت الأفلام والتي كانت في الاغلب أفلام قصيرة،
وكان أول فيلم دشن هذه المرحلة، هو الفيلم الروائي الطويل (غير صالح للعرض) للمخرج عدي رشيد. هذا الفيلم ألتقط الفوضى المأساوية بعد تحرير العراق من قبل قوات التحالف الدولي العام 2003 وتراكمات ما سبقه من مأساة القمع الدكتاتوري، كل ذلك في برواز لوحة لأنسان العراقي الذي تتقاطع فيها المعاناة الشخصية المضنية وتاريخه الموسوم بالمعاناة.
سلط كاميرا رشيد في هذا الفيلم ما وصل اليه الوضع في البلاد، مدينة تحت عبء أزيز الرصاص ودوي التفجيرات الناجمة عن مفخخات تترك أشلاء القتلى على وقع صداها، المدينة التي كانت يوما منارة للثقافة والشعر.
الفيلم بشكل عام أذن بصنع أفلام أخرى لزملاء عدي رشيد بقياس اسلوب تنفيذه وحماسة كادره، ومن ثم النتائج الايجابية التي صاحبت عرضه، كان المؤشر الذي اشعل همة الشباب في صنع الافلام.. ومنذ هذا التاريخ وحتى الان انتجت العديد من الافلام من قبل شباب داخل وخارج الوطن، استطاع البعض يشكل حضورا لافتا بالمشهد السينمائي العراقي.
لكن مشكلة هذه الأفلام بثيمات تكاد تكون متماثلة من حيث قراءتها للواقع العراقي المحتدم، نرى ان مخرجي الخارج انصرفوا الى موضوعات تعلق بالنفي والهجرة والهوية..
اضافة الى ان الافلام المنتجة في الداخل كانت قصيرة للاغلب الاعم، ومتقشفة من ناحية التكاليف، بينما انحسرت الافلام الروائية الطويلة بالمخرجين المقيمين في البلدان الاجنبية، وكذلك المخرجين الكرد.. بسب منافذ التمويل من جهات اوربية عديدة. ومازالت هذه الأفلام تصنع بثيمات تكاد تكون متماثلة من حيث قراءتها للواقع العراقي المحتدم، نرى ان مخرجي الخارج انصرفوا الى موضوعات تتعلق بالنفي والهجرة والهوية..
إذن نحن أمام موضوع واحد هيمن على النتاج الفيلمي العراقي، بعد عام 2003، هو الحدث العراقي بتفاصيله، وتداعياته، وأثره الاجتماعي والنفسي؛ خاصة مع الأفلام التي حظيت بجوائز في هذه المهرجانات.
لكن المشكلة القائمة تتمثل في أسلوب المعالجة، والقدرة على إقناع المتلقي بهول هذا الحدث ومأساويته من دون الوقوع في أسر الوثيقة التي كانت هي المادة الرئيسة لمتن جميع موضوعات هذه الافلام.. لا فرق هنا بين فيلم وثائقي واخر روائي طويل.. وهو ما يوحي بعجز واضح عند صناع هذه الافلام على تمثل الحدث، وإعادة إنتاجه من دون أن يفقد حرارة الفعل والتأثير.
إزاء هذه الحالة، أستطيع القول المصادفة شاءت أن يكون مخرج مثل عدي رشيد، هو من يحدد هو ملامح سينما المستقبل، مثلما كان أول من قاد الشباب لأهمية السينما بعد 2003.
ففيلم عدي رشيد الجديد (أناشيد لآدم) الذي شهد العرض عشية العام 2025، أتاح لنا أن نلمس أن السينما عراقية، بدأت تترجل عن ظهر موضوعات الحرب وتفاصيلها التي استهلكت في الكثير من هذه الأفلام.
الفيلم غاص في الموضوع المحلي درجة جعلت المتلقي ينغمس في تفاصيل صنعته، من الخميساث، والشخصيات، وطريقة سرد حكايته، فهذا الفيلم تضمن، ما يتعاطف معه المتلقي، ذلك أنه اقتفى أثر ما يعشه الوطن، وما يقلق إنسانه.
حكاية فيلم "أناشيد آدم" تبدأ عام 1946 بموت الجد، ليُجبر الصبي "آدم" شقيقه الأصغر "علي" لحضور غُسل جثمان جدهما،
وتترك رؤية الجثة في الصبي انطباعا قاسيا عليه، والذي يقرر إنه لا يريد أن يكبر، ومنذ تلك اللحظة يتوقف "آدم" عن التّقدم في السن ويقف عند 12 عاماً، بينما يكبر كل من حوله، ويُشيع أهل القرية أن لعنة قد حلت على الصبي. ومنذ ذلك التاريخ يتوقف "آدم" عن التّقدم في العمر ليقف عند عمر 12 عاماً.
المكان الذي اختاره المخرج لتصوير مشاهده مكان يتناسب جماليا ودراميا، والمكان أراض صحراوية تحتضن نهرا، ويتحرك الزمن بدقة محسوبة فيه ليصل الى الأعوام الحالية، التي تترك آثارها، على الخميساث مثلما تترك هذا الأثر على الشخصيات.
وفي ظل أوامر الأب الصارمة، يُجبر الصبي "آدم" وشقيقه الأصغر "علي" لحضور غُسل جثمان جدهما، حيث تؤثر رؤية الجثة بشكل عميق على "آدم" الذي يقرر إنه لا يريد أن يكبر، ومنذ تلك اللحظة يتوقف "آدم" عن التّقدم في السن ويقف عند 12 عاماً، بينما يكبر كل من حوله، ويُشيع أهل القرية أن لعنة قد حلت على الصبي، لكن "إيمان" ابنة عمه، وصديق "آدم" المقرب "انكي" يريان وحدهما أن "آدم" يحظى بنعمة كبيرة؛ إذ حافظ على نقاء الطفل وبراءته داخله، ويتحوّل هذا الصبي إلى شاهدٍ على المتغيرات التي وقعت في العراق؛ إذ إن الفيلم يرصد 8 عقود من الزمان صاخبة بالخميساث والوقائع.
شخصية الطفل عزام، هي الشخصية المحورية، التي تدور حولها باقي مصائر الشخصيات، والمقاربة لهذه الشخصية واضحة، مع شخصية ألطفل أوسكار ماتسارت، في (طبل الصفيح) كرواية لغونتر غراس، وفيلم لشلندروف. فاوسكار بقرار ايقافه لنمو بعد ثلاث سنوات من عمره انما يحتج على إهمال امه وتشتت ولائها بين الزوج (المانيا) والعشيق (بولندا),., ومن خلال العديد من المشاهد التي نفذتها بعناية كاميرا شلندروف، نقرأ توتر هذه العلاقة وملابساتها. فيما الطفل عزام في (أناشيد آدم)، يقرر التوقف عن النمو، لأنه ومنذ رؤيته غسل جثة جده، إزاء سؤال فلسفي مهم هو معني أن نعيش إذا كان الموت هو المصير النهائي.. وإذا كان قرع الطبل في الفيلم، قد ترجمه شلوندروف ببراعة على السيلولويد حيث يظهر فيه أوسكار وهو يختبئ تحت المنصة، عازفا على طبلته، بينما الجمهور وحتى القادة النازيون ينجرفون إلى رقصة الفالس رغمًا عنهم، فأن الأصوات التي يطلقها الطفل عزام، هي أصوات تستبطن داخله القلق، وأسئلته التي بلا إجابة.
عدي رشيد في هذا الفيلم، يقود المتلقي الى حلم، يذكر بالواقعية السحرية، ليمهد ما سيقوله فيما بعد، هو أيضا يريد أن ينهض بوعي المتلقي لإثارة الأسئلة، حيث ينشغل في حكايته بالثنائيات، الصحراء والخضرة، الموت والحياة، العطش والأرتواء، وهو هنا لا يدعو اقرانه في السينما العراقية، الى النأي عن ثيمة الحرب والفوضى التي لازمت الوضع العراقي لأكثر من عشرين عاما، بل يدعو الى اجترارها ومن ثم انتاج شكلا جديدا لها، شكل لا يسمي الأشياء بأسمائها، بل يدع الرموز والدلالات، هي التي تغني سرد الحكاية، فالحرب والسياسة مثلا، ممكن تجاوزها، عندما نوقف النمو للطفل (الرمز) الذي لا يكبر ولا ينمو على الإطلاق، حيث تمر حروب بلده منذ الاربعينيات، حتى هذا الزمن. حروب لا يمكن أن يجمعها سوى الفقد والخراب، ومأساة تستمر كطفل أوقف نموه.