TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > التعليم العالي في العراق.. شهادات من الواقع

التعليم العالي في العراق.. شهادات من الواقع

نشر في: 2 فبراير, 2025: 12:06 ص

محمد الربيعي

الى كل من يعنيه امر التعليم العالي ومستقبل العراق، من اعلى سلطة في الدولة الى اعضاء الهيئات التدريسية والطلبة الاعزاء: ان ما ورد في هذه الرسالة ليس مجرد كلمات، بل هو صرخة انذار لوقف تدهور صرح التعليم، فمستقبل الوطن وأجياله امانة بين ايديكم، تستوجب دراسة جادة وخطوات عاجلة لانقاذه.
ما ذكر في هذه المقالة هي محصلة اجابات ما يزيد عن مئة استاذ جامعي في مختلف الجامعات العراقية على سؤالين جوهريين حول اهم الاجراءات التي اتخذتها الوزارة والتي ساهمت في تحسين وتطوير التعليم العالي في العراق واهم الاجراءات التي اتخذتها الوزارة والتي ادت الى تراجع او اضعاف مستوى التعليم العالي في العراق.
تتضمن هذه المقالة مجموعة من الآراء ووجهات النظر التي تم جمعها من المشاركين. من المهم التوضيح ان هذه الآراء لا تمثل بالضرورة وجهة نظري الشخصية، وانما هي انعكاس لوجهات نظر المشاركين المتنوعة. بعض هذه الآراء تم التعبير عنها من قبل أفراد، في حين أن البعض الآخر يمثل وجهة نظر مجموعة من الأشخاص.
كما تجدر الإشارة الى ان الصياغات اللغوية قد تختلف بين الاجابات، الا أن هذه الاختلافات لا تغير من المعنى او المضمون الأصلي.
وبسبب قلة الاجابات الواردة على السؤال الأول، لن يتم التطرق اليها في هذا العرض. بينما تركزت غالبية الردود على السؤال الثاني، الذي سيتم تلخيص اهم ما ورد فيه في الأسطر التالية:
لقد تفاقمت القرارات الارتجالية وانتشرت فوضى الشهادات العليا، والزيادة المطردة في اعداد المقبولين فيها بشكل يتجاوز الضوابط والمعايير والقدرة الاستيعابية، مما ادى الى تراجع المستوى العلمي بشكل ملحوظ.
كما ان توزيع المناصب الادارية في الكليات والجامعات لم يعد يخضع لمعايير الكفاءة والجدارة، بل تحكمه المحاصصة والمحسوبية والمنسوبية بشكل اساسي، مما يعد اجحافا بحق الكفاءات الحقيقية. وقد ازدادت ممارسات نقل القيادات من منصب الى اخر دون اي معايير موضوعية، بل غالبا ما يتم اختيار قيادات غير مؤهلة نفسيا او فكريا، ولا يهمها سوى ارضاء الحزب او القوة المتنفذة، على حساب مصلحة المؤسسة التعليمية.
ناهيك عن اغراق الجامعات بتدريسيين غير مؤهلين للتدريس الجامعي، بل يشكك البعض في نزاهة شهاداتهم. وقد شملت هذه التعيينات العشوائية ايضا حملة الشهادات العليا من جامعات خارجية، مثل ايران ولبنان وغيرها، حيث يتم معادلة هذه الشهادات دون ادنى اعتبار لجودتها او كيفية الحصول عليها.
وقد بلغ التدهور حدا باتت فيه البحوث العلمية معدومة تقريبا، ومع ذلك كثرت الاوراق والرسائل والاطاريح، حيث يتم كتابتها عبر المكاتب التجارية او تشترى من "مصانع الاوراق" سيئة السمعة، وتتعاقد بعض الجامعات الاهلية مع مكاتب نشر خارج العراق لنشر اوراق مزيفة، واجبار تدريسيها على نشر بحثين سنويا من دون توفير مقومات واموال لاجراء البحوث، وكأن البحوث تنزل بزنبيل من السماء، وبدونها يتم استقطاع الراتب. ويضاف الى ذلك التركيز المبالغ فيه على التصنيفات الدولية التجارية، التي رغم مشاركة اعداد كبيرة من الجامعات العراقية فيها، لا تحقق الا نتائج مخيبة للامال، وغالبا ما تحتل الجامعات العراقية فيها مراتب متاخرة.
ويلاحظ نقص مريع في مجالات حيوية كتطوير الكادر التدريسي وتمويل البحوث وتجهيز وصيانة المختبرات وتطوير المناهج والاستثمار في تكنولوجيا التعليم. ونتيجة لشحة التمويل، تُحمل الوزارة تكاليف البحث العلمي على عاتق الطلاب، كما تنتهك، عبر قنوات القبول، اسس المساواة والعدالة الاجتماعية في قبول الطلبة، حيث يطالب الطلاب في الجامعات الحكومية بدفع رسوم غير قانونية في كثير من الاحيان يتعارض مع اسس التعليم المجاني. وقد جرى ايضا تشويه نظام بولونيا (نظام المقررات المبني على الوحدات) وتفريغه من مضمونه، ليتحول الى نظام فصلين دراسيين تقليدي.
كما يلاحظ اهمال متعمد لاسس نظام ضمان الجودة والتنكر لاهم بنوده ومحتوياته، مما فاقم من حالات التسرب وعدم الانتظام في الدوام. بل فرض على التدريسيين تحقيق معدلات نجاح محددة بغض النظر عن مستوى اداء الطلبة او حتى حضورهم الفعلي في الجامعات والكليات. ويقابل عدم تحقيق هذه المعدلات باجراءات تحقيقية تتخذ بحق التدريسي، مما ولد لدى الطالب حالة من اللامبالاة تجاه الدراسة، اذ بات على يقين بان النجاح مضمون له في جميع الاحوال. وما زالت الطرائق التقليدية في التعليم هي السائدة، حيث يرتكز النظام على الحفظ والتلقين. وغياب تقييم الطلبة السنوي لاداء الاساتذة اسهم في تدهور التعليم.
وقد اصبح قانون الترقيات العلمية سببا رئيسا في تردي مستوى التعليم في العراق. فبينما كان من المفترض ان تعتمد الترقية العلمية للاستاذ الجامعي على سنوات خدمته واسهاماته في التدريس وخدمة المجتمع وتطوير المناهج وطرائق التدريس، فقد اثقل هذا القانون بواجبات عديدة خارج اطار العمل الاكاديمي، مما عرقل تطوره المهني والعلمي واشغله بمهمة النشر في مجلات زائفة او مفترسة، وذلك بسبب شح التمويل المخصص للبحث العلمي النزيه، في ظل انتشار ثقافة الفساد الاداري والتزوير والرشاوي وشراء الشهادات. وشجع التركيز المفرط على التصنيفات الدولية، والرغبة في الظهور بأعلى المراتب فيها، على انتشار ممارسات النشر العلمي الزائف، بما في ذلك الأبحاث المكررة والمقالات المفبركة.
وقد تفشت مظاهر الامتيازات بكافة انواعها لمنح درجات تفاضلية، مما يعد غبنا لحقوق الطلاب الاخرين المجتهدين، بالاضافة الى الاستثناءات المتعددة في امور النقل والاستضافة والامتحانات ومنح الشهادات واعادة المرقنة قيودهم (الراسبين). وتفاقمت المركزية المفرطة في الاجراءات، حيث جردت الجامعات من صلاحياتها، فلم يعد لها اي دور ذي اهمية الا بتدخل من الوزير او الوزارة نفسها.
اما الكليات الاهلية فقد تحولت الى مجرد نواد ومساحات للهو يقضيها الطالب، فالنجاح فيها مضمون، والصفوف مكتظة باعداد تفوق امكانيات الكليات، ولم يعد للاستاذ فيها اي اعتبار او تقدير او احترام، بل ان مهمته، كما يفرضها المستثمر، هي انجاح الطلبة فحسب.
وقد باتت كثير من امتحانات الدراسات العليا مهزلة نتيجة لتدني مستوى اجراءات المناقشة وما يصاحبها من مظاهر الاسراف في الضيافة والهدايا، وافتقارها الى التقييم الصحيح، حيث غالبا ما تمنح فيها درجة الامتياز بتدخل كبير من المجاملات.
كما ظهر بجلاء ضعف واضح في اداء القيادات الجامعية وتخوفها من اتخاذ القرارات المناسبة لادارة الجامعة وخوفها الشديد من الوزارة وعدم تحمل المسؤولية. وقد اثر هذا الوضع السلبي على اضعاف شخصية التدريسيين وتخوف معظمهم من عقوبات الوزارة والتغاضي عن محاولات الطلبة ممارسة الغش وتوقعهم عدم دعمهم من قبل الاقسام والعمادات. وتدهورت البنايات نتيجة لعدم الاهتمام بالبنى التحتية وعدم مواكبة متطلبات التطور للنهوض بواقع التدريسي اكاديميا واجتماعيا وماليا.
كما تم تجاهل اراء وتجارب الاساتذة والمشاكل التي يواجهونها في اداء مهامهم التربوية. ونتيجة لهذا الانقطاع عن التواصل مع الكوادر التدريسية، وتزايد الاهتمام بالتعليم الاهلي على حساب التعليم الحكومي الذي بات خارج دائرة اهتمام القيادات الوزارية، لم توفر متطلبات التعليم لمواكبة التقنيات والتطور العلمي والتكنولوجي في هذا المجال، حتى ان العديد من المؤسسات التعليمية تفتقر الى ابسط مقومات البنية التحتية كشبكة الانترنت، فضلا عن النقص الحاد في المصادر والمراجع العلمية الكافية.
وقد فتح المجال على مصراعيه لتاسيس كليات وجامعاتٍ اهلية لا تلتزم في الواقع بقوانين ولوائح الوزارة، وان كانت تعلن خلاف ذلك، بل يتم تشجيع فتح الدراسات فيها، مما ادى الى اغراق سوق العمل بخريجيها على الرغم من عدم حاجة السوق والمجتمع اليهم في الوقت الراهن، مع اهمال تام لجانب الرصانة العلمية في هذه الدراسات. كما انعزل التعليم العراقي عن العالم نتيجة لضعف التبادل الثقافي والمعلوماتي بين الجامعات العراقية والعالمية.
ولم يقتصر الامر على ذلك، بل وصل الى ابتزاز التدريسي عن طريق فرض "التبرعات" الشهرية مقابل اضافة نقاط الى تقييم ادائه السنوي. وتحولت المؤتمرات والندوات العلمية الى وسيلة تتيح الفرصة للميليشيات والمتنفذين للدخول الى الحرم الجامعي، بل باتت وسيلة لجلب الاموال وتحصيل النقاط والقاء المحاضرات التافهة والبحوث الزائفة. كما يحرم الباحثون والاساتذة العراقيون من الوصول الى مكتبات افتراضية توفر مصادر علمية رصينة.
وقد تفاقم الكذب والترويج لانجازات غير حقيقية من قبل بعض الجامعات خصوصا الجامعات والكليات الاهلية. كما ضعف بصورة كبيرة التدريب الصحيح للتدريسيين والباحثين في الجامعات، فالنشر الدولي الرصين الذي تشجع عليه الوزارة يتطلب توفير الاموال والتدريب الصحيح للباحثين من اساتذة وطلبة دراسات عليا، على ان يتسم هذا التدريب بالاستدامة.
تعرض عليكم هذه المقالة صورة قاتمة للواقع الذي يعيشه التعليم العالي في العراق، وهي صورة مستقاة من اراء وخبرات نخبة من اساتذة الجامعات الذين يعانون من هذا الواقع المرير. ان ما ذكر في المقالة ليس مجرد شكاوى عابرة، بل هو تشخيص دقيق لامراض مستعصية تهدد بتقويض صرح التعليم العالي وتعيق تقدم بلدنا.
لذا اضع هذه الرسالة بين ايديكم امانة ومسؤولية، وادعوكم بكل الحاح الى دراسة ما جاء فيها بعناية فائقة، واتخاذ الاجراءات العاجلة لوقف هذا التدهور المتسارع. ان مستقبل العراق ومستقبل اجياله يعتمد على جودة التعليم العالي، ولا يمكن تحقيق التنمية والازدهار في اي مجال من مجالات الحياة دون اصلاح جذري وشامل لهذا القطاع الحيوي. ان الاستجابة لما طرح في هذه الرسالة واتخاذ ما هو صالح للتعليم العالي والجامعات هو استثمار حقيقي في مستقبل العراق، وتجاهله سيكون له عواقب وخيمة على المدى البعيد.
اثق بحكمتكم وحرصكم على مصلحة الوطن، واتطلع الى رؤية خطوات جادة تتخذ في سبيل انقاذ التعليم العالي في العراق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: بروتوكولات مقهى ريش

العمود الثامن: جيوب نظيفة!!

العمود الثامن: الفشل بامتياز

الديمقراطية..لا تصلح لشعب يحكمه فاسدون

قناطر: كسل وغباء "رأس المال" العراقي

العمود الثامن: في ذكرى المتسامح الأكبر

 علي حسين لا أعتقد أن هناك من يمل من الحديث عن سيرة الرجل النحيف الذي قال لأعدائه ذات يوم: "لقد عرفت القانون وجربته فنجح أعظم نجاح، ذلكم هو المحبة وبها ستتحرر الهند".الشهر الماضي،...
علي حسين

قناديل: الدراما البشرية بين الصفر واللانهاية

 لطفية الدليمي جلستُ أتابعُ مثل ملايين البشر مراسم تنصيب (ترامب) رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. مشاهد كثيرة في حفل التنصيب الرئاسي إستولت على الإهتمام الجمعي: قبّعة (ميلانيا) التي أخفت نصف وجهها، ضحكة (هيلاري كلينتون)...
لطفية الدليمي

قناطر: بائعو الخواتم القبيحة

طالب عبد العزيز تتوقف سيارة الميني باص في التقاطع، ويتأخر ضوء إشارة المرور الأخضر فيكثر الشحاذون وباعة المحارم وماسحو الزجاج ثم يتوقف رجل بهيئة مختلفة، يحمل بيده عدداً لا يحصى من خواتم، تبدو من...
طالب عبد العزيز

التعليم العالي في العراق.. شهادات من الواقع

محمد الربيعي الى كل من يعنيه امر التعليم العالي ومستقبل العراق، من اعلى سلطة في الدولة الى اعضاء الهيئات التدريسية والطلبة الاعزاء: ان ما ورد في هذه الرسالة ليس مجرد كلمات، بل هو صرخة...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram