TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: بائعو الخواتم القبيحة

قناطر: بائعو الخواتم القبيحة

نشر في: 2 فبراير, 2025: 12:07 ص

طالب عبد العزيز

تتوقف سيارة الميني باص في التقاطع، ويتأخر ضوء إشارة المرور الأخضر فيكثر الشحاذون وباعة المحارم وماسحو الزجاج ثم يتوقف رجل بهيئة مختلفة، يحمل بيده عدداً لا يحصى من خواتم، تبدو من الفضة أو الحديد، أوثقها في حبل طويل، يعرضها على الركاب والسائقين، مستعرضاً فصوصها الملونة وأحجارها التي يقول عنها بأنها كريمة، ثم يعدد وبحدود ما تسمح به إشارة المرور صفات كل خاتم وحجر. المشهد هذا وبعيداً عن سعي الرجل في تأمين لقمة العيش لا يوصف إلا بالقبح، بل ويضيف الى قبح ما يقوم به أقرانه، الذين يفترشون السوق في أم البروم والعشار وقبالة مسجد المقام وفي أمكنة أخرى من البصرة، هؤلاء الذين يأتون بالحصى(الصلابيخ) الملونة من شاحنات الحصو والرمل والطابوق، ويقررون أسعارها بحسب هيئاتها وألوانها، تجار رثون، لهم متبضعون لا يقلون عنهم رثاثة.
المشهد يومي، ولا تكاد مدينة تخلو منه، وكل حديث بين الباعة والمشترين لا يخرج عن الرزق والوجاهة والحماية من الرصاص والحب وجلب النساء وتعطيل السحر وكسب الدعاوى القانونية ومثل هذه الكثير والكثير في مجتمع تتراجع فيه مفاصل حياته. يمكننا العودة بالزمن الى ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي حين كان الذهب خاتماً للرجل والمرأة معا، هذه المعدن الثمين اللماع الذي اختفى من حياتنا لصالح هؤلاء القبحاء المشعوذين والسحرة، دونما تنبيه من مؤسسة حكومية أو منظمة تعنى بالحياة وقيمها، ومع أنَّ إيقاع البائع في التقاطع وهيئته لا تختلف عن إيقاع الحياة بعامة، إلا أنَّه يزداد سوءاً، فاختفاء الذهب كزينة وحلي ودلالة ثراء عند الرجل والاستعاضة عنه بالبلاتين والفضة والحديد النيكل شيء مقزز وكريه، أما حصة المرأة في المشهد هذا فتكون الاقسى، فهي إّْذْ تسعى لإقتنائه لكنها قلما تتنعم في استعراضه، اللهم إلا عند زوجها وبين صويحابتها، مع يقيننا بأنها تريد صدى بيانه على عنقها في أذنيها وعلى صدرها، لكنَّ قسوة سوق الجمال تمنعها من التجارة العظيمة هذه.
لا أعرف من فكك منظومة الحديث المنسوب الى النبي والقائل بأن الذهب مضر بالرجل، ويعمل على تكسير كريات دمه البيض، هذه السردية الغريبة، التي شاعت في السنوات الأخيرة من حكم الإسلاميين، والتي أتت على جانب مشع من حياتنا، ولم يتوقف عندها أحدٌ من أصحاب العقول في الطب والحكمة والاجتماع ليقول لنا قولته الخلاصة، وليتدارك بها ما وقع علينا، وينقذ الجزء الجميل من وجودنا الإنساني، فقد سوّق هؤلاء المعادن البخسة القبيحة بوصفها دلالة للزهد والورع والايمان الكاذب والنفاق بكل صفاته! وأتوا بفتاواهم على الكثير الحيوي في حياتنا. لقد تمكنوا من أصابعنا ومعاصمنا وأعناقنا، وجعلوها مشاجب وسخة لا أقبح منها، فاختفت بذلك مظاهر الزينة، ولم يعد لمعان الذهب فصلاً في رواية وقائعنا اليومية، أخرجوه نهائياً كواحد من موجبات الاناقة، عند الشباب بخاصة. لا تذهب صورة الاسوارة الذهب بالمشبك والحلقة الصغيرة التي اشتريتها لتزين كف ومعصم أحد أولادي قبل أربعين سنة، ومثلها عشرات الصور التي كانت تطالعنا في أيادي ومعاصم أطفال وصبيان وصبايا الذين نصادفهم صحبة أمهاتهم في السوق والشارع. المشهد الجميل ذاك لم يكن دلالة غنى حسب، ولا وجاهة كاذبة أو فعلاَ من أفعال النفاق ابداً، كان حقيقةً اجتماعية ودلالة أمن وتحضر ورقي أنفس. أوووف ما الذي يحدث لحياتنا يا ناس.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: بروتوكولات مقهى ريش

العمود الثامن: جيوب نظيفة!!

العمود الثامن: الفشل بامتياز

الديمقراطية..لا تصلح لشعب يحكمه فاسدون

قناطر: كسل وغباء "رأس المال" العراقي

العمود الثامن: في ذكرى المتسامح الأكبر

 علي حسين لا أعتقد أن هناك من يمل من الحديث عن سيرة الرجل النحيف الذي قال لأعدائه ذات يوم: "لقد عرفت القانون وجربته فنجح أعظم نجاح، ذلكم هو المحبة وبها ستتحرر الهند".الشهر الماضي،...
علي حسين

قناديل: الدراما البشرية بين الصفر واللانهاية

 لطفية الدليمي جلستُ أتابعُ مثل ملايين البشر مراسم تنصيب (ترامب) رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. مشاهد كثيرة في حفل التنصيب الرئاسي إستولت على الإهتمام الجمعي: قبّعة (ميلانيا) التي أخفت نصف وجهها، ضحكة (هيلاري كلينتون)...
لطفية الدليمي

قناطر: بائعو الخواتم القبيحة

طالب عبد العزيز تتوقف سيارة الميني باص في التقاطع، ويتأخر ضوء إشارة المرور الأخضر فيكثر الشحاذون وباعة المحارم وماسحو الزجاج ثم يتوقف رجل بهيئة مختلفة، يحمل بيده عدداً لا يحصى من خواتم، تبدو من...
طالب عبد العزيز

التعليم العالي في العراق.. شهادات من الواقع

محمد الربيعي الى كل من يعنيه امر التعليم العالي ومستقبل العراق، من اعلى سلطة في الدولة الى اعضاء الهيئات التدريسية والطلبة الاعزاء: ان ما ورد في هذه الرسالة ليس مجرد كلمات، بل هو صرخة...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram