طالب عبد العزيز
تتوقف سيارة الميني باص في التقاطع، ويتأخر ضوء إشارة المرور الأخضر فيكثر الشحاذون وباعة المحارم وماسحو الزجاج ثم يتوقف رجل بهيئة مختلفة، يحمل بيده عدداً لا يحصى من خواتم، تبدو من الفضة أو الحديد، أوثقها في حبل طويل، يعرضها على الركاب والسائقين، مستعرضاً فصوصها الملونة وأحجارها التي يقول عنها بأنها كريمة، ثم يعدد وبحدود ما تسمح به إشارة المرور صفات كل خاتم وحجر. المشهد هذا وبعيداً عن سعي الرجل في تأمين لقمة العيش لا يوصف إلا بالقبح، بل ويضيف الى قبح ما يقوم به أقرانه، الذين يفترشون السوق في أم البروم والعشار وقبالة مسجد المقام وفي أمكنة أخرى من البصرة، هؤلاء الذين يأتون بالحصى(الصلابيخ) الملونة من شاحنات الحصو والرمل والطابوق، ويقررون أسعارها بحسب هيئاتها وألوانها، تجار رثون، لهم متبضعون لا يقلون عنهم رثاثة.
المشهد يومي، ولا تكاد مدينة تخلو منه، وكل حديث بين الباعة والمشترين لا يخرج عن الرزق والوجاهة والحماية من الرصاص والحب وجلب النساء وتعطيل السحر وكسب الدعاوى القانونية ومثل هذه الكثير والكثير في مجتمع تتراجع فيه مفاصل حياته. يمكننا العودة بالزمن الى ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي حين كان الذهب خاتماً للرجل والمرأة معا، هذه المعدن الثمين اللماع الذي اختفى من حياتنا لصالح هؤلاء القبحاء المشعوذين والسحرة، دونما تنبيه من مؤسسة حكومية أو منظمة تعنى بالحياة وقيمها، ومع أنَّ إيقاع البائع في التقاطع وهيئته لا تختلف عن إيقاع الحياة بعامة، إلا أنَّه يزداد سوءاً، فاختفاء الذهب كزينة وحلي ودلالة ثراء عند الرجل والاستعاضة عنه بالبلاتين والفضة والحديد النيكل شيء مقزز وكريه، أما حصة المرأة في المشهد هذا فتكون الاقسى، فهي إّْذْ تسعى لإقتنائه لكنها قلما تتنعم في استعراضه، اللهم إلا عند زوجها وبين صويحابتها، مع يقيننا بأنها تريد صدى بيانه على عنقها في أذنيها وعلى صدرها، لكنَّ قسوة سوق الجمال تمنعها من التجارة العظيمة هذه.
لا أعرف من فكك منظومة الحديث المنسوب الى النبي والقائل بأن الذهب مضر بالرجل، ويعمل على تكسير كريات دمه البيض، هذه السردية الغريبة، التي شاعت في السنوات الأخيرة من حكم الإسلاميين، والتي أتت على جانب مشع من حياتنا، ولم يتوقف عندها أحدٌ من أصحاب العقول في الطب والحكمة والاجتماع ليقول لنا قولته الخلاصة، وليتدارك بها ما وقع علينا، وينقذ الجزء الجميل من وجودنا الإنساني، فقد سوّق هؤلاء المعادن البخسة القبيحة بوصفها دلالة للزهد والورع والايمان الكاذب والنفاق بكل صفاته! وأتوا بفتاواهم على الكثير الحيوي في حياتنا. لقد تمكنوا من أصابعنا ومعاصمنا وأعناقنا، وجعلوها مشاجب وسخة لا أقبح منها، فاختفت بذلك مظاهر الزينة، ولم يعد لمعان الذهب فصلاً في رواية وقائعنا اليومية، أخرجوه نهائياً كواحد من موجبات الاناقة، عند الشباب بخاصة. لا تذهب صورة الاسوارة الذهب بالمشبك والحلقة الصغيرة التي اشتريتها لتزين كف ومعصم أحد أولادي قبل أربعين سنة، ومثلها عشرات الصور التي كانت تطالعنا في أيادي ومعاصم أطفال وصبيان وصبايا الذين نصادفهم صحبة أمهاتهم في السوق والشارع. المشهد الجميل ذاك لم يكن دلالة غنى حسب، ولا وجاهة كاذبة أو فعلاَ من أفعال النفاق ابداً، كان حقيقةً اجتماعية ودلالة أمن وتحضر ورقي أنفس. أوووف ما الذي يحدث لحياتنا يا ناس.