عصام الياسري
بعيدا عن تأمين مصالح الدولة وإشاعة الأمن والاستقرار، اعتاد قادة الأحزاب الطائفية الماسكة باركان السلطة من بعد سقوط النظام الديكتاتوري لحزب البعث وما خلفه من دمار وأزمات وحروب، التوافق فيما بينهم، فقط، لما تقتضيه مصالحهم السياسية والفئوية الثابتة، وفق مبدأ، تقسيم أمور مؤسسات الدولة الإدارية ومواردها المالية وثرواتها الطبيعية والعقارية فيما بينهم على خلاف ما هو دارج في علم السياسة الدولية ما يسمى بمفهوم (عقيدة الإخلاص الرصين) الذي يلزم حماية المسؤول الحقوق اللزومية، الخاصة والعامة، للدولة والمجتمع واحترام الدستور والقوانين المرعية دون تلاعب أو تسويف.
من منظور الانسجام السياسي ومفهوم العلاقات الدولية أثبتت تجارب الدول الحديثة بأن التفاوض بين الأطراف المتباينة العقيدة والسلوك السياسي والفكري غالبا ما يؤدي إلى نتائج مستدامة أكثر من ممارسة العنف والعقوبات أو المواجهات المسلحة لحل النزاعات العقائدية أو السياسية. في الشأن العراقي، فيما التفاوض من الناحية الواقعية في حسابات قوى وأحزاب ما بعد التغيير عام 2003 (شيعية، سنية، كردية) مع قوى المعارضة المختلفة التي تطالب بإصلاح النظام السياسي لم يكن واردا، فان قوى الحرية والتغيير والأحزاب العلمانية المعارضة، منذ، إنطلاق الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر 2019 ومن ثم إجهاضها لم تتمكن من إنتاج آليات مؤثرة للتحول الديمقراطي والتمثيل المتساوي في البرلمان وبقيت الإشكاليات البنيوية للطائفية السياسية قائمة. وعلى الرغم من الخبرة السياسية والفكرية التي تمتلكها، إلا أنها، أي “المعارضة”، قد فشلت على مدى عقدين في إيجاد وسائل ضغط سياسية وبشرية “ضغط شعبي” يمكن أن تتحول إلى أداة فاعلة لإجبار الأطراف الماسكة بالسلطة على التفاوض الصريح والنزيه لتحقيق العدالة الاجتماعية بسبب الاكتفاء بالتنظير والحيادية والحلول التوافقية إلى أبعد الحدود...
التفاوض هو عملية أساسية لتحقيق التفاهم بين الأطراف المختلفة، أيضا، ركيزة لتحقيق المطالب الإنسانية والسياسية لأفراد المجتمع. في بلد يواجه الكثير من التعقيدات في العلاقات الدولية والإقليمية، كالعراق، يجب أن ينظر إلى التفاوض بوصفه وسيلة سلمية لتحقيق الأهداف المشتركة دون اللجوء إلى الصراع لحل الخلافات السياسية. لكن، يجب على مبدأ التفاوض بين الأحزاب والأطراف السياسية، داخل السلطة أو خارجها، خاصة، بين أطراف غير متكافئة في القوة أو الموارد، ألا يواجه جدلا بشأن فعاليته لتوفير أمن واستقرار العراق وتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان الحقوق والمساواة لكافة العراقيين.
لذا فأن المفهوم العام من الناحيتين السياسية والمجتمعية في ظروف معقدة كالتي يمر العراق بها، يشكل التفاوض بين قوى المعارضة والأحزاب الحاكمة العراقية مدخلا لتحقيق إصلاح منظومة الحكم، سياسيا وإداريا، كما يعتبر إحدى أبرز الآليات لحل الأزمات وتحقيق التوازن السياسي وضمان توزيع السلطة بشكل عادل ومشاركة الجميع في صناعة القرار لإبعاد العراق عن المخاطر التي تتربص به. إلا أن ذلك من الناحية الموضوعية وليس الافتراضية، يتطلب رؤية واضحة لإستخدام التفاوض في إطار من النزاهة والعدالة واستعداد الأطراف احترام وجهات النظر وقبول التنازلات المتبادلة وألا يشكل عدم التكافؤ (القوة والموارد) وسيلة لتكريس الإختلال في السياق السياسي وعدم الالتزام بالمبادئ الديمقراطية وبشكل كبير بنتائج المفاوضات...
التفاوض عادة هو عملية معقدة تتطلب توازنا دقيقا بين المصالح المتعارضة في بيئة من الشفافية وحسن النية لتحقيق العدالة السياسية والإدارية وضمان استقرار النظام السياسي لكن في غياب الشروط قد يتحول التفاوض إلى أداة لتعزيز الهيمنة بديلا عن تحقيق التوافق... في سياق التفاوض الذي تطمح إليه القاعدة الشعبية مع القوى والأحزاب الحاكمة حول مطالب سياسية وإدارية، مثل ضمان تمثيل عادل في الحكومة، حماية الحقوق المدنية وإجراء إصلاحات في المؤسسات، على المعارضة من حيث المبدأ أن تضع سيناريوهات متعددة لعملية التفاوض، بما في ذلك الخيارات البديلة وإيجاد آليات تضمن التزام الأطراف بمبادئ وشروط التفاوض والبالنتائج...
منذ غزوه عام 2003 غالبا ما تكون الأحزاب العراقية “الشيعية والسنية والكردية” الماسكة بالحكم في وضع أقوى من حيث الموارد والمؤسسات. تمارس النيات المبطنة، وقد تستخدم بعض الأحيان التفاوض كوسيلة لاحتواء الموقف المتدهور الناتج عن تعقيد شروط المفاوضات حول مبادئ المشاركة في السلطة وتوزيع الغنائم والامتيازات الإدارية والفئوية فيما بينها تارة. وبينها وبين قوى المعارضة التي تضع تلبية مطالبها بما في ذلك إصلاح النظام السياسي والانتقال السلمي للسلطة أمرا أساسيا لا يقبل التسويف والمماطلة وكسب الوقت من جانب آخر. الأمر الذي أنتج عدم الثقة وصعوبة الوصول إلى اتفاقات نزيهة ومستدامة.
وعلى ما يبدو أن العوامل المؤثرة على نجاح التفاوض بين قوى المعارضة وبعض القوى والأحزاب الماسكة بالسلطة لاتزال غير ناضجة على الرغم من التهديدات السياسية والاقتصادية والعسكرية المحيطة بالعراق من جهات عدة بسبب ضيق أفق بعض القوى والساسة العراقيين وعدم استعدادهم توفير منصة وطنية شاملة ورؤية استراتيجية واضحة وبرنامج سياسي جامع لحل الصراعات الداخلية والخارجية دون اللجوء للعنف أو الإقصاء.
الخلاصة: التفاوض هو مهارة تجمع بين المعرفة النظرية والممارسة العملية. لتحقيق نتائج فعالة، يجب أن يكون الطرف المفاوض، ونقصد “المعارضة” على دراية بالمبادئ الأساسية للتفاوض ومهارات تطبيقها بذكاء وخبرة. يتطلب ذلك إعدادا مسبقا، ذكاء عاطفيا، مرونة، والتزاما بالوصول إلى حلول عادلة ومستدامة. أيضا إرادة سياسية حقيقية وتطبيقا عمليا في سياق وجود ضغط شعبي يدفع بالسلطة والأحزاب صاحبة القرار للقبول بالمفاوضات مع أطراف المعارضة من أحزاب ومنظمات مدنية وحراك شعبي مع وجود آليات تضمن الالتزام بالاتفاق وتحقيق نتائج عملية لإنهاء الأزمات الداخلية والتهديدات والتدخلات الخارجية التي يتعرض لها العراق على مدى ستة عقود...