بغداد – تبارك عبد المجيد
مع تراجع الأعداد السمكية بسبب جفاف الأنهار وتقلص المسطحات المائية، يشكو صيادون من تهديد مصدر رزقهم الأساسي. اذ أصبح الصيد أكثر صعوبة وأقل جدوى اقتصادية، ما دفع الكثير منهم إلى ترك المهنة أو اللجوء إلى أساليب غير قانونية لتعويض الخسائر. ورغم معاناتهم، لا تجد شكواهم آذانًا صاغية من الجهات المعنية.
الصيادون يهاجرون
يحذر الصياد والمرشد السياحي رسول نوري من التداعيات الخطيرة التي يشهدها العراق بسبب أزمة الجفاف التي تؤثر بشكل مباشر على الثروة السمكية وعلى حياة آلاف العائلات التي تعتمد على مهنة الصيد. وفي حديث مع مراسل (المدى)، أشار نوري إلى أن تراجع منسوب الأنهار وزيادة الجفاف أديا إلى انخفاض ملحوظ في أعداد الأسماك، بالشكل الذي يهدد الأمن الغذائي وسبل العيش التي كانت توفرها هذه المهنة لأبناء المجتمعات.
وأوضح نوري أن أسباب هذه الأزمة تعود إلى شح المياه، والتغيرات المناخية التي يشهدها العراق بشكل متزايد، بالإضافة إلى السياسات المائية الإقليمية التي أدت إلى تقلص المسطحات المائية، مما انعكس سلبًا على التنوع البيولوجي للمياه. كما تسببت زيادة ملوحة المياه في بعض المناطق في نفوق أعداد كبيرة من الأسماك، وهو ما يفاقم الوضع ويزيد من المعاناة.
ورغم أهمية القطاع السمكي في تأمين غذاء العراقيين وتأمين دخل لآلاف الأسر، إلا أن الصيادين في مناطق مثل الأهوار ونهر دجلة والفرات يواجهون تحديات كبيرة، حيث أصبح الصيد أصعب وأقل مردودًا اقتصاديًا. وقد دفع ذلك العديد من الصيادين إلى ترك هذه المهنة والبحث عن مصادر دخل أخرى، في حين لجأ آخرون إلى أساليب غير قانونية مثل الصيد الجائر لتعويض الخسائر الكبيرة. وفي شكوى لاذعة، قال نوري: "يبدو أننا لسنا عراقيين، فوزارة الموارد المائية لا تلتفت لمعاناتنا، ودول الجوار لا ترحم عطش أراضينا". واصفًا الوضع بالكارثي، حيث أكد أن هور الحويزة قد جف تمامًا، وأن الإمدادات المائية التي كانت تأتي من إيران قد توقفت وتحولت إلى محافظة البصرة.
وأكد نوري على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة هذه الأزمة، مطالبًا بإدارة أكثر كفاءة للموارد المائية، والتعاون مع الدول المجاورة لضمان الحصص المائية العادلة، بالإضافة إلى تشجيع مشاريع الاستزراع السمكي كحلول مستدامة للمحافظة على الثروة السمكية وضمان استمرارية مهنة الصيد في العراق. من جانبه، يشتكي الصياد أحمد الأهواري من تجاهل الحكومة لدعمه ودعم الصيادين بشكل عام، حيث يقتصر دعمها على منح التراخيص لممارسة مهنة الصيد دون توفير أي مساعدات حقيقية. وفي حديث مع "المدى"، أكد أن الأزمة المائية في العراق قد تفاقمت بشكل كبير، مما أثر على حياة الصيادين بشكل بالغ. وأوضح أن بعض المناطق مثل هور الدلمج، التي كانت سابقًا مليئة بالمياه في فصلي الصيف والشتاء، أصبحت الآن تعاني من الجفاف القاسي للعام الثالث على التوالي، ما أدى إلى هجرة معظم الصيادين الذين كانوا يعتمدون على هذه المسطحات المائية كمصدر رئيسي للرزق.
وأشار الاهواري إلى أن "أزمة المياه تتفاقم بسبب سيطرة جهات تنتمي لأحزاب متنفذة على حوالي 60% من المسطحات المائية في هور الدلمج، بدعم من بعض الجهات الحكومية. وهذا التسلط على الموارد المائية أدى إلى حرمان الصيادين المستقلين من الوصول إلى المياه لممارسة مهنتهم، مما دفعهم إلى الهجرة أو البحث عن مصادر رزق أخر".
وأكد أن الأهوار التي كانت تمثل مصدرًا رئيسيًا للعيش قد تحولت إلى "محميات" تحت سيطرة أطراف معينة، وتقوم تلك الجهات بالتحكم في المياه لصالحها، ما يفاقم الأزمة ويزيد من معاناة الصيادين.
وبجانب ذلك، تمارس ذات الجهات أفعالًا غير قانونية، حيث يُستخدم الصيد الجائر على نطاق واسع في الأهوار، ولا يستهدف الأسماك فحسب، بل يشمل أيضًا صيد الطيور وبيعها في الأسواق بشكل غير منظم. وقال الزبيدي: "في بعض البحيرات داخل الأهوار، يتم اصطياد ما لا يقل عن 200 طائر يوميًا باستخدام طرق صيد غير مشروعة تُعرف محليًا بـ 'الدوشة'". ويبين، إن "هور الدلمج والأهوار الجنوبية الأخرى تعيش وضعًا حرجًا للغاية، حيث لم يتبقَ من مياهها سوى القليل، فيما جفت بعض الأهوار تمامًا. وتعتمد معظم الأهوار في جنوب العراق على المياه القادمة من إيران، ولكن التغيرات المناخية والسياسات المتعلقة بإدارة المياه في المنطقة أدت إلى نقص حاد في التدفقات المائية، ما جعل الأزمة أكثر تعقيدًا.
فقدان مصادر الرزق!
وفي ظل التحديات الكبيرة التي يواجهها قطاع الثروة السمكية في العراق، يشير رئيس الجمعية العراقية لمنتجي الأسماك، إياد الطالبي، إلى الانقسام الكبير بين الصيادين في البلاد. الفئة الأولى تضم الصيادين الذين يعتمدون على الصيد في نهري دجلة والفرات، بالإضافة إلى المبازل، وفق شروط محددة تهدف إلى الحفاظ على الثروة السمكية. هؤلاء الصيادون يستخدمون شباكًا خاصة ويتبعون طرقًا معينة تضمن عدم الإضرار بالبيئة المائية.
أما الفئة الثانية، وفقا لحديث الطالبي لـ(المدى)، فتعكس جانبًا مظلمًا من المهنة، حيث يلجأ بعض الصيادين إلى أساليب غير قانونية مثل استخدام الكهرباء والسموم لصيد الأسماك. هذا النوع من الصيد يشكل تهديدًا كبيرًا للبيئة، وتواجه هذه الفئة ملاحقة من قبل الشرطة والقوات الأمنية، نظرًا للأضرار البيئية الجسيمة التي تترتب على هذه الأنشطة. وبالإضافة إلى ذلك، هناك نوع آخر من الصيادين يعملون في المزارع السمكية الخاصة. هؤلاء يُستأجرون من قبل أصحاب المزارع مقابل أجور يومية أو وفق نظام الدفع حسب وزن الأسماك التي يصطادونها. يقوم هؤلاء الصيادون بعمليات الصيد والتنظيف والوزن، تمهيدًا لتحميل الأسماك إلى الأسواق. لكن القرارات الحكومية الأخيرة التي تخص ردم الأحواض السمكية التي تعتمد على مياه المبازل، قد أثرت بشكل كبير على هذه الفئة من الصيادين، مما أدى إلى فقدان العديد منهم لفرص العمل.
الطالبي أوضح أن قطاع تربية الأسماك كان يشمل أكثر من مليوني شخص، يعملون بشكل مباشر أو غير مباشر في هذا المجال. كانت مهنة الصيد توفر العديد من فرص العمل لمختلف الفئات، من الصيادين إلى الناقلين وأصحاب معامل الأعلاف والعاملين في المطاعم ومحال بيع الأسماك. لكن مع تقليص المساحات المخصصة للمزارع السمكية نتيجة لقرارات الردم، فقدت الكثير من العائلات مصدر رزقها، مما أدى إلى فراغ اقتصادي كبير.
ومع تراجع الإنتاج السمكي بشكل ملحوظ، ارتفعت أسعار الأسماك بشكل غير مسبوق، حيث قفزت الأسعار من 3-4 الاف دينار إلى 8-9 الاف دينار، ما أثر بشكل مباشر على المستهلكين وزاد من الاعتماد على الاستيراد لتعويض النقص في الإنتاج المحلي.
ورغم أهمية تطبيق القوانين لحماية الموارد المائية، فإن الطالبي شدد على ضرورة دراسة موضوع ردم الأحواض السمكية بعناية. وأكد أن هناك إمكانيات للاستفادة من المياه التي تنتهي إلى البحر، مثل مياه المبازل والنهر الثالث، في تربية الأسماك بدلاً من هدرها. هذا الحل يمكن أن يعيد تشغيل قطاع المزارع السمكية ويوفر فرص عمل جديدة للصيادين والعاملين في هذا المجال، دون التأثير على المياه العذبة المخصصة للزراعة والشرب.