د.فاطمة الثابت
"الشعوب التي تختار قادتها بوعي هي شعوب تصنع مستقبلها"...
جان جاك روسو
السياسة العالمية فنٌّ معقد يتطلب قدرة على المناورة واتخاذ القرارات المدروسة التي قد تصل أحياناً إلى حدّ اللعبة المجنونة هذا الفن، الذي يعتمد على لاعبين أساسيين، قادر على تجاوز حدود العقلانية المعتادة ليصنع واقعاً جديداً بالمقابل، عندما أعود بنظري إلى السياسة المحلية، أرى مشهداً مختلفاً تماماً قرارات عاطفية، هراء سياسي بلا تخطيط، ودمى تسير وفق أجندات بعيدة عن الواقع أو المصلحة العامة.
ليس هدفي هنا تقييم الواقع السياسي بقدر ما هو محاولة لفهم أعمق من زاوية علم الاجتماع السياسي، الذي ينظر إلى السياسة ليس فقط كقرارات حكومية، بل كعملية اجتماعية معقدة تتشابك مع القوى الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية هذه الزاوية تجعلنا نعيد التفكير في أسباب تخلف السياسة المحلية مقارنة باللعبة العالمية المجنونة التي تمارسها القوى الكبرى.
السياسة كفن عالمي مقابل السياسة المحلية كقرارات عشوائية
تشبه السياسة اليوم لعبة مجنونة حيث تتنافس العقلانية والفوضى على الهيمنة ولا يوجد مكان أكثر حدة من هذا التوتر في العراق، الأمة المحاصرة بين أنقاض التدخلات الخارجية وثقل تاريخها ومع ذلك فإن صراعات العراق تعكس أزمة عالمية أوسع نطاقًا: تآكل حكم الدولة - فن الحكم - وسط المسرح السياسي المتصاعد والاستقطاب والانحلال المؤسسي يتساءل هذا المقال عن الواقع المجزأ للعراق كحالة فريدة من نوعها وانعكاس للاتجاهات العالمية، ويطرح السؤال: هل تستطيع الدول أن تحكم استراتيجيًا في عصر السياسة الأدائية؟
منذ عام 2003، جسد العراق انهيار الحكم في ما أسماه الباحث ريناد منصور "حكم الكارتل النخبوي" لقد أدى نظام المحاصصة الذي فرضته الولايات المتحدة، وهو ترتيب لتقاسم السلطة على أساس طائفي ــ إلى تقليص السياسة إلى رعاية عرقية دينية، حيث تعمل الوزارات كإقطاعيات وتغذي الثروة النفطية الفساد بدلاً من التنمية. والنتيجة هي دولة أبوية جديدة: حديثة ظاهرياً، ولكنها مبنية على محسوبية ما قبل الحداثة.
وتعطي النخب الأولوية للبقاء على السيادة وتتنافس الفصائل الشيعية والسُنية على الرعاية الإيرانية أو الأميركية؛ ويستغل القادة الأكراد نزاعات الحكم الذاتي لتعزيز السلطة؛ ويحول هذا التفتت الحكم إلى لعبة محصلتها صفر، مما يشل عملية صنع السياسات على سبيل المثال، على الرغم من كسب 100 مليار دولار سنويًا من عائدات النفط، يعيش 35٪ من العراقيين في فقر، ويستهلك 90٪ من ميزانية الدولة الرواتب والإعانات - وهي شهادة على الحكم المعاملاتي وليس التحويلي.
الجهات الفاعلة الخارجية تؤدي إلى تفاقم الفوضى العراق ساحة معركة بالوكالة للتنافس بين الولايات المتحدة وإيران، والتوترات التركية الكردية، وتدخلات الخليج العربي وفي الوقت نفسه، قوبلت الحركات الشعبية مثل احتجاجات تشرين 2019 - التي تطالب بالإصلاح التكنوقراطي - بالعنف، مما يكشف عن دولة أكثر مهارة في القمع من فن الحكم وهذا يجعلنا نطرح تساؤل أين نحن من السياسة كعملية اجتماعية؟
علم الاجتماع السياسي يساعدنا على فهم السياسة كنتاج تفاعل اجتماعي فالسياسة ليست مجرد قرارات تصدر من الأعلى، بل هي انعكاس لتركيبة المجتمع وبنيته، المجتمعات التي تتمتع بهياكل اجتماعية متماسكة وقوية تنتج سياسات أكثر استقراراً وفعالية وفي ظل مفترق الطرق النظري هناك إطاران يفسران هذه الأزمة العالمية:
1. "النظام السياسي" لفوكوياما: مؤسسات ضعيفة + محسوبية قوية = فشل الحكم. إن العراق يفتقر إلى "دولة غير شخصية" قادرة على تجاوز الطائفية، تماماً مثل أميركا اللاتينية في القرن العشرين. ففي الديمقراطيات، يعمل الناخبون المستقطبون على تفكيك الحواجز المؤسسية.
2.نظرية اللعبة: إن الجهات الفاعلة السياسية ــ سواء كانت نخباً عراقية أو ديماغوجيين شعبويين ــ تعطي الأولوية للمكاسب قصيرة الأجل ويصبح الفساد والجمود معادلات ناش: فلا يمكن لأي لاعب أن "يفوز" بالإصلاح وحده.وتضيف نظرية ما بعد الاستعمار بعض التفاصيل الدقيقة، فقد ورثت دول مثل العراق حدوداً اصطناعية واقتصادات استخراجية، في حين تواجه القوى العالمية الآن تدهوراً مؤسسياً خاصاً بها ــ ديناميكية متناقضة من "الإمبراطورية ترد الضربة".
ولكن في ظل واقعنا تغيب هذه الهياكل لصالح نزاعات داخلية وصراعات على السلطة، والإعلام الذي من المفترض أن يكون وسيلة توجيه وتنوير، أصبح أداة تضليل وتوجيه للرأي العام بما يخدم مصالح فئة قليلة وهذا يتطلب منا إعادة صياغة أجندتنا السياسية.. وهنا يجب أن نتوقف ونفكر في كيفية إعادة ترتيب أوراقنا السياسة ليست مجرد قرارات عشوائية، وكما يقول فوكو"السلطة والمعرفة مترابطتان؛ حيث توجد السلطة توجد المعرفة."
لذلك نحتاج إلى بناء المعرفة السياسية القائمة على فهم عميق للواقع الاجتماعي والاقتصادي، بعيداً عن الخطابات الرنانة و تشكيل فرق متخصصة حيث لا يمكن أن تُدار السياسة بدون خبراء ومختصين يمتلكون رؤية طويلة الأمد و إعادة هيكلة الإعلام من خلال تحويله إلى منصة لرفع الوعي السياسي والاجتماعي، بدلاً من أن يكون أداة لصناعة التضليل.
وتشكل الفلسفة السياسية رؤية أعمق لفهم السياسة حيث أشار هوبز إلى أهمية العقلانية في صنع القرارات فإذا أردنا تجاوز هراء الساسة، يجب أن نستفيد من هذه الرؤى لبناء سياسات أكثر توازناً وعقلانية، السياسة لعبة لكن ليس كل لاعب قادر على اللعب بمهارة.نحن بحاجة إلى التحول من كوننا دمى تُقاد إلى لاعبين فاعلين قادرين على صنع القرار هذا التحول يبدأ من المعرفة، يمر بالتخطيط، وينتهي بقرارات مدروسة تقف على أرض الواقع اللعبة المجنونة قد تكون عنوان السياسة العالمية، لكننا هل نملك الفرصة لتحويلها إلى لعبة مدروسة تعيدنا إلى مسرح التأثير؟؟؟؟؟